"إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما، فإنما تصل إلى مفتاح أدبه لو أنك وقعت على الكلمة التي ما تنفك تتردد في أدبه أكثر من سواها" ناقد فرنسي.
في الكلمة تكمن أسرار عظيمة، تُدخل المتبصر في هذا العالم إلى متاهات الخلق والكون والذات، قد يخرج منها بكَسْبٍ عظيم أو بخُفي حُنين، قد خسر الجهد والوقت، وأضاع اللحظة والقادم في أسر الماضي والتجربة التي لم يتحرر منهما، والأمر لا يختلف كثيرا في دراسة إنتاج أديب ما، فقد يُرهق الباحث نفسه في التنقيب عن اللآلئ دون الوصول إلى نتيجة مرضية أو غنيمة مُثرية إن لم يخض في الطريقة المثلى غوصا إلى أعماق السر، وقد تقوده الكلمة في لحظة تبصّر ونقاء إلى الجوهر الذي تحرسه ظُلمات البحر وأمواجه. من هذا المنطَلق تبتدئ رحلة د. أحمد في كتابه بعد أن حاز على مفاتيح الولوج إلى عوالم من اختارهم من الشعراء. السؤال الذي يطرح نفسه لمَ كلمة مفتاح بالذات؟ هذه الكلمة التي قد تثير في مخيلتنا صورا عديدة عن الأبواب التي تخبئ خلفها الأسرار، أو الأقفال التي تحفظ صناديقها الوثائق والمخطوطات، أو المغامرات بحثا عن كنوز، وهي أيضا تربط ما بين الكلمة السر والمفتاح وبمعنى أكثر دقة فإن الكلمة هي المفتاح، فالكلمة التي تفتح أقفال شعر شاعر ما هي إلا المفتاح الذي يكسر قيد مجهول ويُدخل الساعي خلف الثراء عوالم من الإبداع الفني والأدبي والإنساني وتُسقط كل الستائر التي كانت المسدلة أمامه في وقت سابق، إن فك جميع رموز أديب ما شاعرا كان أم ناثرا عبر كلمة واحدة، قد تبدو أمرا مستعجلا فيه إن لم تكن محالا، فما من أديب حصيف يضع كنوزه في خزنة واحدة، هذا إن عرف كيف يجمعها ويربط حلقاته في سلسلة واحدة، إذ غالبا ما تكون التجربة الإنسانية عشوائية بانتظامها؛ قراءة في المحيط والذات والآخر متداخلة في تصوراتها وتطلعاتها وتبصّراتها، لتجمعها عبقرية فذة في علم أو معرفة أو أدب، لذا فلكل أديب أو كاتب مفاتيح كثيرة، قد يتأتى عن عملية معرفة أحد هذه المفاتيح دربا يقود آخر وقد لا تتأتى وتتطلب بحثا جديدا عن مفتاح آخر نلج فيه إلى عوالم جديدة لم نكن نتوقع وجودها، وفي ذات السياق ليس بالضرورة وجود أكثر من مفتاح إذ الباحث يستشعر هذا المفتاح أو هذه المفاتيح وهو في بحر إبداع هذا الأديب، الأمر الذي يعتمد على مدى سعة هذا البحر ومدى مهارة الباحث في الكشف عن العمق الحقيقي لهذا البحر ومواضع كنوزه وأسراه، إلا أن د. أحمد قد عرف كيف يلملم أطراف بحثه ويرصه رصا في تجربة سبر فيها أغوار إنتاجات ستة من الشعراء العرب هم: عنترة العبسي وعمرو بن كلثوم (العصر الجاهلي)، أبو العلاء المعري وأبو نواس (العصر العباسي)، صلاح عبد الصبور وعلي أحمد سعيد "أدونيس" (العصر الحديث)، بعد أن عثر على الكلمة/ المفتاح التي يرجُّ صدى صوتها أركان الأبيات. والشعراء الذين اختارهم لا تفضيلا لهم على غيرهم إلا أن الأمر كما يذكر لا يتعدى عن اهتمامات الباحث وذوقه، وربما ما لم يصرح به الكاتب، أن هؤلاء الستة هم من تأكد من عثوره على مفاتيح أشعارهم الأمر الذي لم يحصل مع آخرين سواء آمتلكوها أم لم يمتكلوها.
إنَّ هذا البحث الكبير والمتقن لو خاض فيه من لم يملك أدوات القراءة الصحيحة والنقد الذي يدخل فيه الناقد على صاحب العمل وهو في ذروة انشغاله لجاء مهلهلا ضائعا بلا أي قيمة معرفية أو أثر أدبي، لذا فإن هذا الكتاب في حقيقته دراسة أكثر من بديعة فالكشف عن ذات الشاعر في الشعر لا تقل متعة عن القراءة له لأول مرة والاندهاش بإبداعه، إذ في البحث في أشعار من اختارهم بعد أن يمسك كل منا بمفتاح الدخول يُلبس الشعر والشاعر ثوبا جديدا ولربما متجددا في كل مرة نقرأ فيها.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول الأول عن عنترة العبسي، ومفتاح شعره ضمير المتكلم، إذ بعد أن عانى ما عاناه عنترة من حياة العبودية في قومه نظرا لأنه ابن عبدة أبيه (زبيبة) حتى نال حريته في الحادثة الشهيرة بعد هجوم قبيلة طيء على عبس وقال له والده كر فأجابه العبد لا يحسن الكر، فرد قائلا كر وأنت حر، فهنا قد فتح الباب على مصراعيه أمام الشاعر والفارس ليدخل التاريخ في شعره وبسالته، هذا الشعر الذي كان تجسيدا حقيقيا لحياة عنترة ما قبل وبعد العبودية، إذ بقي هاجس إثبات نفسه يسيطر عليه، فلم يجد وسيلة غير أن يكرر ضمير المتكلم بكل صوره اللغوية الممكنة للتعبير عن وجوده وكيانه الخاص الذي لا يشبهه به أحدا، متخذا مما كان يُعاب به عليه سلاحا ومن شجاعته ترسا يخوض فيها وسط بيئة تتعنصر للقبيلة وتحتقر الآخر المختلف، ويصفه د. أحمد بأنه كسر القاعدة التي مشى عليها شعراء العرب السابقين له في الحديث باسم القبيلة والجميع، فعنترة لم يكن يرى نفسه واحدا منهم بل هو متفردا متميزا بذاته وشعره وشجاعته. وفي ساحة هذا التفرد والذاتية في الشعر يكمن المفتاح الذي يبدأ به البحث في إنتاج وحياة هذا الشاعر.
الفصل الثاني من الكتاب وهو عن الشاعر عمرو بن كلثوم، وضمير المتكلمين، إذ إن ضمير المتكلمين هو المفتاح في شعر عمرو فهو يتكلم باسم القبيلة والجميع، صاهرا ذاته في ذوات الآخرين، ليجتمعوا جميعا في بوقتة واحدة لا تُصدر إلا صوتا واحدا، ولا تقول إلا قولا واحدا، هذا الاتحاد الذي ميّز شعر عمرو ونراه عاليا طاغيا يملأ الأرجاء في معلقته التي أثقلها ضمير المتكلمين فـ نحن ونا ولنا التي تدخل في الحروف والأسماء والأفعال تعطينا دلالة جليّة عن الفرق بين عنترة وعمرو والذي يلخصه د. أحمد قائلا:
"يتبقى القول بأن صوتي عمرو وعنترة يظلان صوتين ضدين في الشعر الجاهلي، وأن الضدية التي كانت بينهما على صعيد الحياة قد انعكست على صفحة الفن، فارتماء الأول في حضن القبيلة ليلهو تحت ظلالها الوارفة، يقابله إقصاء الثاني عن دائرة قبيلته واحتراقه بنار الإذلال تارة والإنكار أخرى. أما الدفء الذي استشعره الأول في أحضان القبيلة قد جعله يضحي بصوته فداء لصوت القبيلة، أو جعله يضع صوته في خدمة القبيلة. وأما البرد الذي استشعره الثاني حين أُقصي وجدانيا عن قبيلته، فقد جعله يتقوقع على ذاته، باحثا عن دفئه من تلك القوى الكامنة فيه والتي استنفرت بفعل ظروف المعاناة وأسباب الألم. وأصبح من الطبيعي أن تتناقص الضمائر التي يلوذ بها كل من الشاعرين وذلك حسب موقف القبيلة من كل منهما، ففي حين يلوذ الأول بـ"نحن" يلوذ الثاني بـ"أنا"، الأول يردد متباهيا بقبيلته "إنَّا" والثاني يؤكد على ذاتيه بـ"إنِّي"، الأول يتمادى في التباهي قائلا "إننا" والثاني يبالغ في التأكيد قائلا "إنني".
الفصل الثالث والذي يتناول الشاعر أبو نواس، والذي تكمن الكلمة المفتاح للولوج إلى عالمه الشعري في صيغ الأمر والنهي، إن إنتاجا كبيرا لشاعر مثل أبي نواس ليس من السهل حصره في مفتاح واحد، ويحتاج كما يؤكد الكاتب إلى قراءة مستفيضة بالطول والعرض وحس معرفي وإدراك نقدي فذ يتفحص فيه قصائد الشعر، إلا أن المفتاح كان في صيغ الأمر والنهي، وأبو نواس لا يفرق عن سابقيه وليس بمنأى عن تأثير حياتهم والنظام الاجتماعي السائد في نظرتهم إلى المحيط والمجتمع والحياة وتجسيد هذه الرؤى في أشعارهم، والقصيدة التي يتناول الكاتب في بحثه في شعر أبي نواس هي قصيدة "ساق وخمر"، والتي يحلل فيها صيغ الأمر والنهي وتعدد صورها ومضامينها ودلالتها التي قد تطفح عليها سمات الشعوبية. كما تكشف عن ثنائيات متضادة أو متبادلة مثل ثنائية الذكر/ الأنثى، العاذلة والتحول من الخبر إلى الإنشاء كما تكشف القصيدة أيضا عن التعلق بالخمر والإصرار على عدم التوبة. هذه القصيدة التي توضح لنا أننا أمام شاعر مبدع يعرف ما ينظم وكيف ينظم بدقة متناهية وفكر متقد لا تسلبه سكرة الخمر انتباهه ووجوده.
الفصل الرابع هو عن الشاعر الكبير أبي العلاء المعري، الشاعر الحكيم أو الفيلسوف، ويُعد المفتاح الذي يولج إلى شعر المعري كامنا في صيغ التسوية التي تملأ قصائده، فهذه المرة لا يتوقف الكاتب عند أبيات وقصائد معدودة كما فعل مع أبي نواس، بل يتخذ من شعر المعري جملة مادة للبحث والكشف عن صيغ التسوية بين الخير والشر، والحياة والموت، والماضي والمستقبل، والفقر والغنى، والليل والنهار، إلخ من الثنائيات المتضادة، إذ لا فرق بين الأنبياء ولا الديانات، وكل شيء عنده متساو، وتتنوع صيغ التساوي ما بين سيّان ومثل والكاف وشبيه وسواء، وكل صيغة تدل على التشابه والتماثل وعدم الاختلاف أو التميّز. لا يتوقف البحث عند هذا الحد في الكشف عن مفتاح شعر أبي العلاء المعري، بل يستمر في الكشف والدراسة عن/ في فكره ورؤاه في الوجود والحياة والعقل والنقل والبداية والنهاية والجبر والاختيار، متبوعا برؤية فلسفية في شعر أبي العلاء وهي دراسة لا تقل ثراءً عن معرفة مفتاح شعر أبي العلاء، إذ نقف فيها أمام هامة كبيرة في الفكر والفلسفة التي تستحق الوقوف والتمعن فيها كثيرا أمام شاعر لم يعش حياة مرهفة زادها عليه عماه الذي بلي به منذ صغره، لذا فينهي د. أحمد الحديث عنه قائلا: "فإن أبا العلاء هو هذا اللبيب الذي أضحى لا يفرح بصديق، ولا يعبأ بعدو فهما -في تقديره- متشابهان، أليسا هما ابنين لـ"أم دَفْر" التي قضى أبو العلاء حياته كلها يهتك سترها؟!
*أم دفر: الدنيا والدفر هو النتن.
الفصل الخامس، بعيدا عن شعراء العصور الماضية، الذين لم يخرجوا عن البحور الخليلية، ولا البيت الشعري المكون من صدر وعجز، فإن الفصل الخامس جاء بشاعر حداثي جديد، هو المصري صلاح عبد الصبور، وبكلمة/ مفتاح لشعره هي "المفارقة بين الماضي والحاضر"، وبتحليل قصيدة شعر حر "أحلام الفارس القديم" ليعدها مدخلا لشعر صلاح عبد الصبور الذي امتاز في المقابلة/ المقارنة ما بين الماضي والحاضر أين كنا وأين أصبحنا، هذه المفارقة بين ماضٍ خلا وحاضر محاصَر، يقضي الشاعر في هذا الفضاء مسافرا بقصيدته إذ يخلط فيها بين زمنين ماضٍ وحاضر وعالمين حُلم وواقع، تتناظر هاتان الثنائيتان في قصيدته التي يُخاطب فيها نفسه وحبيبته، خيالته وأمنياته يطير بالجميع إلى فضاءات شاسعة ليصطدم بعدها بضيق الأفق الذي أحاطه ليكسّر على صخرته جميع ما صبا إليه ونشده. يتناول د. أحمد القصيدة بالنقد والتحليل اللغوي والأسلوبي والبنيوي ورؤية عامة في القصيدة وأجوائها، وينقسم التحليل إلى أربعة عناصر هي:
1- التراسل اللغوي. 2- الفعل وبنية النص. 3- وعي اللا وعي. 4- منطق الحلم.
إنَّ العرض لفكر ومفتاح قصائد صلاح عبد الصبور، ليس مجرد تحليل فني وأدبي، بل يتنوع ويتوزع على عدة أفرع مثل العلاقة بين الماضي والحاضر، العودة إلى الماضي، من الحاضر إلى المستقبل، التي تلتقي جميعها في مجرًى واحد، يُكمل بعضه بعضا لتكتمل صورة المفتاح لشعر عبد الصبور، هذه الصورة التي تُرفد بنقاط التقاء عبد الصبور مع شعراء سابقين مما يعطي للعرض التحليلي بُعدا أوسع يضم في جنباته المفتاح الأصل مع المؤثرات والتأثيرات التي تبلورت لتشكل علامة وسمة ومفتاح للدخول إلى عالم عبد الصبور الشعري حين يتجاذب الماضي والحاضر في القصيدة في مفارقة المقابلة والمقارنة بينهما حيث يكون الشاعر هو الوسط والوسيط ليتقدم بالقصيدة إلى الأمام مبرزا الماضي وابنه الإنسان الذي كان شيئا وأصبح آخر لا يشبهه ولا يمت له بصلة إلا في الذاكرة التي بقيت محتفظة بحلم الأمس وتقف على أطلاله في الحاضر في مناجاة وأسى.
الفصل السادس والأخير من الكتاب، هو من الفصول المهمة في الكتاب لا سيما وهو يتناول شاعرا كبيرا بذخ الفكر في شعره، حتى أصبح شعره فكرا وفكره شعرا، وهو يصارع رافضا نسخ الماضي في الحاضر وتكراره في نسخة مشوهة قائمة على الجمود والتتبع الأعمى، ومناجزا بشعره تسلم الماضي والتراث وجعله بساطا يعيش فوقه الحاضر فيُسلب الماضي أهيمته ويفقد الحاضر مزيته، إذ تتحول المسألة من التأثر به إلى الحبس فيه، إنه الشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بـ "أدونيس"، والكلمة/ المفتاح لشعره هي "رفض استنساخ الماضي في الحاضر" عبر دراسة استراتيجية الخطاب في ديوان/ كتاب "الكتاب" وهو أحد إنتاجات أدونيس المميزة والتي استمر في نهجه فيها في الحث على الإبداع والنهي عن الاتباع الأعمى، الشاعر الذي كتب الدواوين والدراسات، وأهم ما كتب في هذا المجال الثابت والمتحول بأجزائه الأربعة، الذي يعد بحثا منهجيا معبّرا عن فكره الإبداعي الحداثي التجديدي ورغم المآخذ عليه إلا أن تجربة أدونيس من أهم التجارب الفكرية الأدبية العربية في القرن العشرين إن لم تكن الأهم. يتناول د. أحمد عمل أدونيس "الكتاب" تحليلا وعرضا ونقدا مبتدأً بالعنوان الرئيس "الكتاب" وما له من دلالات وإشارات والعنوان الفرعي "أمس المكان الآن"، حيث يغيب المستقبل، هذا العنوان الذي يوحي بصورة صارخة برؤية أدونيس في ضرورة تخليص الحاضر "الآن من الماضي "الأمس/ التراث" لكنه ليس تخليصا قمعيا وبترا للجذور لكنها عملية تعقيم وانتقائية من أجل فرز الصالح عن الفاسد، وما ينفع عما يضر، وبدون تنقية الحاضر فإن المستقبل لا معنى له إذ سيكون نسخة عن الحاضر وأخرى مشوهة عن الماضي. ينقسم هذا الفصل في تحليل "الكتاب" إلى أربعة فصول هي: استراتيجية العنوان، واستراتيجية المكان/ الزمان، واستراتيجية التجاوز، واستراتيجية التلقي. إذ يأخذ القارئ في هذه الفصول من أجل الوقوف على رؤية وتطلعات وأهداف أدونيس الفكرية/ الشعرية، وهذه الرحلة من أمتع الدراسات في الكتاب، ود. أحمد قد أجاد في تحليلاته لأدونيس على غرار ما كان في الفصول السابقة، مثريا القارئ لا سيما الذي لم يقرأ لأدونيس، بعبقرية هذا الرجل الإبداعية والتي يمكن أن نلخصها في هذه الأسطر من "الكتاب" إذ يقول:
"آيتي أنني منهم- بشر مثلهم
ولكنني
أستيضيءُ بما يتخطى الضياء
آيتي أنهم
يقرأون الحروف وأقرأ ما في الخفاء"
"إذا ما تناولت بالدرس أديبا ما، فإنما تصل إلى مفتاح أدبه لو أنك وقعت على الكلمة التي ما تنفك تتردد في أدبه أكثر من سواها" ناقد فرنسي.
في الكلمة تكمن أسرار عظيمة، تُدخل المتبصر في هذا العالم إلى متاهات الخلق والكون والذات، قد يخرج منها بكَسْبٍ عظيم أو بخُفي حُنين، قد خسر الجهد والوقت، وأضاع اللحظة والقادم في أسر الماضي والتجربة التي لم يتحرر منهما، والأمر لا يختلف كثيرا في دراسة إنتاج أديب ما، فقد يُرهق الباحث نفسه في التنقيب عن اللآلئ دون الوصول إلى نتيجة مرضية أو غنيمة مُثرية إن لم يخض في الطريقة المثلى غوصا إلى أعماق السر، وقد تقوده الكلمة في لحظة تبصّر ونقاء إلى الجوهر الذي تحرسه ظُلمات البحر وأمواجه. من هذا المنطَلق تبتدئ رحلة د. أحمد في كتابه بعد أن حاز على مفاتيح الولوج إلى عوالم من اختارهم من الشعراء. السؤال الذي يطرح نفسه لمَ كلمة مفتاح بالذات؟ هذه الكلمة التي قد تثير في مخيلتنا صورا عديدة عن الأبواب التي تخبئ خلفها الأسرار، أو الأقفال التي تحفظ صناديقها الوثائق والمخطوطات، أو المغامرات بحثا عن كنوز، وهي أيضا تربط ما بين الكلمة السر والمفتاح وبمعنى أكثر دقة فإن الكلمة هي المفتاح، فالكلمة التي تفتح أقفال شعر شاعر ما هي إلا المفتاح الذي يكسر قيد مجهول ويُدخل الساعي خلف الثراء عوالم من الإبداع الفني والأدبي والإنساني وتُسقط كل الستائر التي كانت المسدلة أمامه في وقت سابق، إن فك جميع رموز أديب ما شاعرا كان أم ناثرا عبر كلمة واحدة، قد تبدو أمرا مستعجلا فيه إن لم تكن محالا، فما من أديب حصيف يضع كنوزه في خزنة واحدة، هذا إن عرف كيف يجمعها ويربط حلقاته في سلسلة واحدة، إذ غالبا ما تكون التجربة الإنسانية عشوائية بانتظامها؛ قراءة في المحيط والذات والآخر متداخلة في تصوراتها وتطلعاتها وتبصّراتها، لتجمعها عبقرية فذة في علم أو معرفة أو أدب، لذا فلكل أديب أو كاتب مفاتيح كثيرة، قد يتأتى عن عملية معرفة أحد هذه المفاتيح دربا يقود آخر وقد لا تتأتى وتتطلب بحثا جديدا عن مفتاح آخر نلج فيه إلى عوالم جديدة لم نكن نتوقع وجودها، وفي ذات السياق ليس بالضرورة وجود أكثر من مفتاح إذ الباحث يستشعر هذا المفتاح أو هذه المفاتيح وهو في بحر إبداع هذا الأديب، الأمر الذي يعتمد على مدى سعة هذا البحر ومدى مهارة الباحث في الكشف عن العمق الحقيقي لهذا البحر ومواضع كنوزه وأسراه، إلا أن د. أحمد قد عرف كيف يلملم أطراف بحثه ويرصه رصا في تجربة سبر فيها أغوار إنتاجات ستة من الشعراء العرب هم: عنترة العبسي وعمرو بن كلثوم (العصر الجاهلي)، أبو العلاء المعري وأبو نواس (العصر العباسي)، صلاح عبد الصبور وعلي أحمد سعيد "أدونيس" (العصر الحديث)، بعد أن عثر على الكلمة/ المفتاح التي يرجُّ صدى صوتها أركان الأبيات. والشعراء الذين اختارهم لا تفضيلا لهم على غيرهم إلا أن الأمر كما يذكر لا يتعدى عن اهتمامات الباحث وذوقه، وربما ما لم يصرح به الكاتب، أن هؤلاء الستة هم من تأكد من عثوره على مفاتيح أشعارهم الأمر الذي لم يحصل مع آخرين سواء آمتلكوها أم لم يمتكلوها.
إنَّ هذا البحث الكبير والمتقن لو خاض فيه من لم يملك أدوات القراءة الصحيحة والنقد الذي يدخل فيه الناقد على صاحب العمل وهو في ذروة انشغاله لجاء مهلهلا ضائعا بلا أي قيمة معرفية أو أثر أدبي، لذا فإن هذا الكتاب في حقيقته دراسة أكثر من بديعة فالكشف عن ذات الشاعر في الشعر لا تقل متعة عن القراءة له لأول مرة والاندهاش بإبداعه، إذ في البحث في أشعار من اختارهم بعد أن يمسك كل منا بمفتاح الدخول يُلبس الشعر والشاعر ثوبا جديدا ولربما متجددا في كل مرة نقرأ فيها.
ينقسم الكتاب إلى ستة فصول الأول عن عنترة العبسي، ومفتاح شعره ضمير المتكلم، إذ بعد أن عانى ما عاناه عنترة من حياة العبودية في قومه نظرا لأنه ابن عبدة أبيه (زبيبة) حتى نال حريته في الحادثة الشهيرة بعد هجوم قبيلة طيء على عبس وقال له والده كر فأجابه العبد لا يحسن الكر، فرد قائلا كر وأنت حر، فهنا قد فتح الباب على مصراعيه أمام الشاعر والفارس ليدخل التاريخ في شعره وبسالته، هذا الشعر الذي كان تجسيدا حقيقيا لحياة عنترة ما قبل وبعد العبودية، إذ بقي هاجس إثبات نفسه يسيطر عليه، فلم يجد وسيلة غير أن يكرر ضمير المتكلم بكل صوره اللغوية الممكنة للتعبير عن وجوده وكيانه الخاص الذي لا يشبهه به أحدا، متخذا مما كان يُعاب به عليه سلاحا ومن شجاعته ترسا يخوض فيها وسط بيئة تتعنصر للقبيلة وتحتقر الآخر المختلف، ويصفه د. أحمد بأنه كسر القاعدة التي مشى عليها شعراء العرب السابقين له في الحديث باسم القبيلة والجميع، فعنترة لم يكن يرى نفسه واحدا منهم بل هو متفردا متميزا بذاته وشعره وشجاعته. وفي ساحة هذا التفرد والذاتية في الشعر يكمن المفتاح الذي يبدأ به البحث في إنتاج وحياة هذا الشاعر.
الفصل الثاني من الكتاب وهو عن الشاعر عمرو بن كلثوم، وضمير المتكلمين، إذ إن ضمير المتكلمين هو المفتاح في شعر عمرو فهو يتكلم باسم القبيلة والجميع، صاهرا ذاته في ذوات الآخرين، ليجتمعوا جميعا في بوقتة واحدة لا تُصدر إلا صوتا واحدا، ولا تقول إلا قولا واحدا، هذا الاتحاد الذي ميّز شعر عمرو ونراه عاليا طاغيا يملأ الأرجاء في معلقته التي أثقلها ضمير المتكلمين فـ نحن ونا ولنا التي تدخل في الحروف والأسماء والأفعال تعطينا دلالة جليّة عن الفرق بين عنترة وعمرو والذي يلخصه د. أحمد قائلا:
"يتبقى القول بأن صوتي عمرو وعنترة يظلان صوتين ضدين في الشعر الجاهلي، وأن الضدية التي كانت بينهما على صعيد الحياة قد انعكست على صفحة الفن، فارتماء الأول في حضن القبيلة ليلهو تحت ظلالها الوارفة، يقابله إقصاء الثاني عن دائرة قبيلته واحتراقه بنار الإذلال تارة والإنكار أخرى. أما الدفء الذي استشعره الأول في أحضان القبيلة قد جعله يضحي بصوته فداء لصوت القبيلة، أو جعله يضع صوته في خدمة القبيلة. وأما البرد الذي استشعره الثاني حين أُقصي وجدانيا عن قبيلته، فقد جعله يتقوقع على ذاته، باحثا عن دفئه من تلك القوى الكامنة فيه والتي استنفرت بفعل ظروف المعاناة وأسباب الألم. وأصبح من الطبيعي أن تتناقص الضمائر التي يلوذ بها كل من الشاعرين وذلك حسب موقف القبيلة من كل منهما، ففي حين يلوذ الأول بـ"نحن" يلوذ الثاني بـ"أنا"، الأول يردد متباهيا بقبيلته "إنَّا" والثاني يؤكد على ذاتيه بـ"إنِّي"، الأول يتمادى في التباهي قائلا "إننا" والثاني يبالغ في التأكيد قائلا "إنني".
الفصل الثالث والذي يتناول الشاعر أبو نواس، والذي تكمن الكلمة المفتاح للولوج إلى عالمه الشعري في صيغ الأمر والنهي، إن إنتاجا كبيرا لشاعر مثل أبي نواس ليس من السهل حصره في مفتاح واحد، ويحتاج كما يؤكد الكاتب إلى قراءة مستفيضة بالطول والعرض وحس معرفي وإدراك نقدي فذ يتفحص فيه قصائد الشعر، إلا أن المفتاح كان في صيغ الأمر والنهي، وأبو نواس لا يفرق عن سابقيه وليس بمنأى عن تأثير حياتهم والنظام الاجتماعي السائد في نظرتهم إلى المحيط والمجتمع والحياة وتجسيد هذه الرؤى في أشعارهم، والقصيدة التي يتناول الكاتب في بحثه في شعر أبي نواس هي قصيدة "ساق وخمر"، والتي يحلل فيها صيغ الأمر والنهي وتعدد صورها ومضامينها ودلالتها التي قد تطفح عليها سمات الشعوبية. كما تكشف عن ثنائيات متضادة أو متبادلة مثل ثنائية الذكر/ الأنثى، العاذلة والتحول من الخبر إلى الإنشاء كما تكشف القصيدة أيضا عن التعلق بالخمر والإصرار على عدم التوبة. هذه القصيدة التي توضح لنا أننا أمام شاعر مبدع يعرف ما ينظم وكيف ينظم بدقة متناهية وفكر متقد لا تسلبه سكرة الخمر انتباهه ووجوده.
الفصل الرابع هو عن الشاعر الكبير أبي العلاء المعري، الشاعر الحكيم أو الفيلسوف، ويُعد المفتاح الذي يولج إلى شعر المعري كامنا في صيغ التسوية التي تملأ قصائده، فهذه المرة لا يتوقف الكاتب عند أبيات وقصائد معدودة كما فعل مع أبي نواس، بل يتخذ من شعر المعري جملة مادة للبحث والكشف عن صيغ التسوية بين الخير والشر، والحياة والموت، والماضي والمستقبل، والفقر والغنى، والليل والنهار، إلخ من الثنائيات المتضادة، إذ لا فرق بين الأنبياء ولا الديانات، وكل شيء عنده متساو، وتتنوع صيغ التساوي ما بين سيّان ومثل والكاف وشبيه وسواء، وكل صيغة تدل على التشابه والتماثل وعدم الاختلاف أو التميّز. لا يتوقف البحث عند هذا الحد في الكشف عن مفتاح شعر أبي العلاء المعري، بل يستمر في الكشف والدراسة عن/ في فكره ورؤاه في الوجود والحياة والعقل والنقل والبداية والنهاية والجبر والاختيار، متبوعا برؤية فلسفية في شعر أبي العلاء وهي دراسة لا تقل ثراءً عن معرفة مفتاح شعر أبي العلاء، إذ نقف فيها أمام هامة كبيرة في الفكر والفلسفة التي تستحق الوقوف والتمعن فيها كثيرا أمام شاعر لم يعش حياة مرهفة زادها عليه عماه الذي بلي به منذ صغره، لذا فينهي د. أحمد الحديث عنه قائلا: "فإن أبا العلاء هو هذا اللبيب الذي أضحى لا يفرح بصديق، ولا يعبأ بعدو فهما -في تقديره- متشابهان، أليسا هما ابنين لـ"أم دَفْر" التي قضى أبو العلاء حياته كلها يهتك سترها؟!
*أم دفر: الدنيا والدفر هو النتن.
الفصل الخامس، بعيدا عن شعراء العصور الماضية، الذين لم يخرجوا عن البحور الخليلية، ولا البيت الشعري المكون من صدر وعجز، فإن الفصل الخامس جاء بشاعر حداثي جديد، هو المصري صلاح عبد الصبور، وبكلمة/ مفتاح لشعره هي "المفارقة بين الماضي والحاضر"، وبتحليل قصيدة شعر حر "أحلام الفارس القديم" ليعدها مدخلا لشعر صلاح عبد الصبور الذي امتاز في المقابلة/ المقارنة ما بين الماضي والحاضر أين كنا وأين أصبحنا، هذه المفارقة بين ماضٍ خلا وحاضر محاصَر، يقضي الشاعر في هذا الفضاء مسافرا بقصيدته إذ يخلط فيها بين زمنين ماضٍ وحاضر وعالمين حُلم وواقع، تتناظر هاتان الثنائيتان في قصيدته التي يُخاطب فيها نفسه وحبيبته، خيالته وأمنياته يطير بالجميع إلى فضاءات شاسعة ليصطدم بعدها بضيق الأفق الذي أحاطه ليكسّر على صخرته جميع ما صبا إليه ونشده. يتناول د. أحمد القصيدة بالنقد والتحليل اللغوي والأسلوبي والبنيوي ورؤية عامة في القصيدة وأجوائها، وينقسم التحليل إلى أربعة عناصر هي:
1- التراسل اللغوي. 2- الفعل وبنية النص. 3- وعي اللا وعي. 4- منطق الحلم.
إنَّ العرض لفكر ومفتاح قصائد صلاح عبد الصبور، ليس مجرد تحليل فني وأدبي، بل يتنوع ويتوزع على عدة أفرع مثل العلاقة بين الماضي والحاضر، العودة إلى الماضي، من الحاضر إلى المستقبل، التي تلتقي جميعها في مجرًى واحد، يُكمل بعضه بعضا لتكتمل صورة المفتاح لشعر عبد الصبور، هذه الصورة التي تُرفد بنقاط التقاء عبد الصبور مع شعراء سابقين مما يعطي للعرض التحليلي بُعدا أوسع يضم في جنباته المفتاح الأصل مع المؤثرات والتأثيرات التي تبلورت لتشكل علامة وسمة ومفتاح للدخول إلى عالم عبد الصبور الشعري حين يتجاذب الماضي والحاضر في القصيدة في مفارقة المقابلة والمقارنة بينهما حيث يكون الشاعر هو الوسط والوسيط ليتقدم بالقصيدة إلى الأمام مبرزا الماضي وابنه الإنسان الذي كان شيئا وأصبح آخر لا يشبهه ولا يمت له بصلة إلا في الذاكرة التي بقيت محتفظة بحلم الأمس وتقف على أطلاله في الحاضر في مناجاة وأسى.
الفصل السادس والأخير من الكتاب، هو من الفصول المهمة في الكتاب لا سيما وهو يتناول شاعرا كبيرا بذخ الفكر في شعره، حتى أصبح شعره فكرا وفكره شعرا، وهو يصارع رافضا نسخ الماضي في الحاضر وتكراره في نسخة مشوهة قائمة على الجمود والتتبع الأعمى، ومناجزا بشعره تسلم الماضي والتراث وجعله بساطا يعيش فوقه الحاضر فيُسلب الماضي أهيمته ويفقد الحاضر مزيته، إذ تتحول المسألة من التأثر به إلى الحبس فيه، إنه الشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف بـ "أدونيس"، والكلمة/ المفتاح لشعره هي "رفض استنساخ الماضي في الحاضر" عبر دراسة استراتيجية الخطاب في ديوان/ كتاب "الكتاب" وهو أحد إنتاجات أدونيس المميزة والتي استمر في نهجه فيها في الحث على الإبداع والنهي عن الاتباع الأعمى، الشاعر الذي كتب الدواوين والدراسات، وأهم ما كتب في هذا المجال الثابت والمتحول بأجزائه الأربعة، الذي يعد بحثا منهجيا معبّرا عن فكره الإبداعي الحداثي التجديدي ورغم المآخذ عليه إلا أن تجربة أدونيس من أهم التجارب الفكرية الأدبية العربية في القرن العشرين إن لم تكن الأهم. يتناول د. أحمد عمل أدونيس "الكتاب" تحليلا وعرضا ونقدا مبتدأً بالعنوان الرئيس "الكتاب" وما له من دلالات وإشارات والعنوان الفرعي "أمس المكان الآن"، حيث يغيب المستقبل، هذا العنوان الذي يوحي بصورة صارخة برؤية أدونيس في ضرورة تخليص الحاضر "الآن من الماضي "الأمس/ التراث" لكنه ليس تخليصا قمعيا وبترا للجذور لكنها عملية تعقيم وانتقائية من أجل فرز الصالح عن الفاسد، وما ينفع عما يضر، وبدون تنقية الحاضر فإن المستقبل لا معنى له إذ سيكون نسخة عن الحاضر وأخرى مشوهة عن الماضي. ينقسم هذا الفصل في تحليل "الكتاب" إلى أربعة فصول هي: استراتيجية العنوان، واستراتيجية المكان/ الزمان، واستراتيجية التجاوز، واستراتيجية التلقي. إذ يأخذ القارئ في هذه الفصول من أجل الوقوف على رؤية وتطلعات وأهداف أدونيس الفكرية/ الشعرية، وهذه الرحلة من أمتع الدراسات في الكتاب، ود. أحمد قد أجاد في تحليلاته لأدونيس على غرار ما كان في الفصول السابقة، مثريا القارئ لا سيما الذي لم يقرأ لأدونيس، بعبقرية هذا الرجل الإبداعية والتي يمكن أن نلخصها في هذه الأسطر من "الكتاب" إذ يقول:
"آيتي أنني منهم- بشر مثلهم
ولكنني
أستيضيءُ بما يتخطى الضياء
آيتي أنهم
يقرأون الحروف وأقرأ ما في الخفاء"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق