السبت، 11 يوليو 2020

تحت ظلال أعتق ملحمة في التاريخ



(ملحمة گلگامش)

إن ملحمة گلگامش* ليست أولَ أثرٍ أدبي في تاريخ البشري فحسب بل وأول أثر أدبي كامل الأركان فنيًا وموضوعيًا يصل إلينا قاصًا علينا حكاية الملك السومري گلگامش، الذي ينتمي كما تُشير المصادر إلى عصر فجر السلالات 3000-2400 ق.م. ونسبت له العديد من البطولات والأساطير. ثم بدأت تتبلور حكايته نحو سنة 2350 عند سيطرة السلالة الأكدية ثم شُرعَ بتدوينها نحو 2000 ق. م. كما يُقدِّم طه باقر للمحلمة بترجمته الصادرة في خمسينات القرن الماضي**. إذن ونحن في الألفية الرابعة فما زلنا مستمرين على قراءة هذه الملحمة ودراستها فنيًا وموضوعيًا واستخلاص العِبر منها فكيف يكون الخلود بعد وأنَّى لهذا أن يتكرر في كل زمان لولا عراقة هذه الملحمة ونضجها الأدبي والتكويني والفكري والإنساني وهي تقدم لنا صورًا اجتماعية ودينية وسياسية واحتفالية متعددة، لوحة كاملة تُخلِّد حال أوروك التي حكمها الملك الباطش والمتجبر الظلوم گلگامش والقوي والجميل والحكيم كذلك حتى نزل أنكيدو من السماء لينقلب الحال وتأخذ الحكاية منحًا آخر حتى نهايتها حيث تبزغ مواضيعُ المغامرة والقتال والشجاعة والصداقة والوفاء. 
والأهم من كل هذا ما ينشطر إلى قسمين الأول: الجانب العقائدي المتمثل في الطوفان الذي ضرب الأرض بسبب إرادة الآلهة ونجاة أوتو-نبشتم من معه على متن السفينة، ولا يخفى على القارئ أنَّ الأديان الإبراهيمية تتحدث عن هذا الطوفان ونبي الله نوح (عليه السلام)*** إن صحَّ كون الطوفانين المذكورين واحدٌ. والقسم الآخر: في سؤال الموت الذي يداهم گلگامش بعد موت أنكيدو ورؤية الدود على جثمانه ليرهبه المنظر ويكره مصيره هذا ثم يشرع في البحث عن جواب سؤال الموت وما وراءه وهل ثمة منجى أو وسيلة للهرب منه؟ هذا السؤال الذي طُرحَ قبل أكثر من أربع آلاف سنة يعود ليتكرر في القرن الحادي والعشرين، فيكتب المفكر يوفال نوح هراري في كتابه Homo Deus عن الموت وكيفية النجاة منه بل وقهره، الهدف الذي أضحى ضمن جدول أعمال الإنسان، وفي أقل الاحتمالات البحث عن الشباب الخالد. 
إنها الدورة الفكرية والنفسية الإنسانية ذاتها تتكرر من عصر إلى آخر مرتديةً أثواب جديدة تتلائم مع التطور المرافق لبني الإنسان. فما فكّر به گلگامش في وقته يفكِّر به الإنسان اليوم، ليداهمنا سؤال مهم ما الذي تغيَّر في الإنسان وهو عندما بلغ أوج نضجه الفكري والأدبي كتب عن سؤال الموت والخلود وفي أوج نضجه التقني والفكري الذي لم يشهد له في تاريخه مثال ما زال يبحث عن جواب للسؤال ذاته! إيه أيها الموت ما أعقد لغزك وأجمدَ حال الباحث عن حلِّك.       

يُقسِّم طه باقر الذي ترجم الملحمة عن اللغة السومرية بألواحها المكتشفة (وهي ناقصة لكن ما وصل إلينا يُثبت أن الملحمة شبه مكتملة كما يُشير وتوضحه الملحمة في موضوعها المتكامل وذات الوحدة الفنيّة المتماسكة وغير المضطربة أو المتزعزعة وتشابه إسلوبها وثباته رغم أنها تبدو أحيانا مختصرة أو هكذا أراد من دوَّنها) إلى أربع مراحل، تُقدِّم كل مرحلة جزء من القصة لتكتمل القصة في المرحلة الرابعة الأخيرة. 

المرحلة الأولى:
يُفتتح اللوح الأول من ملحمة گلگامش بـ:

هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي
هو الذي خبر جميع الأشياء وأفاد من عبرها

گلگامش الملك الباطش لأوروك الذي ثلثاه إله وثلثه بشر، طوله ١١ ذراعا وعرضه ٧ أشبار- تغضبُ لبطشه الآلهةُ وتخلق أنكيدو الذي ينزل فيعيش مع الوحش والحيوان في البرية حتى يراه الراعي الصياد الذي أفسد عليه أنكيدو صيده وبئره وفخاخه. 
ونقرأ أن أول وسيلة للإطاحة بأنكيدو وإبعاده عن الغابة والرعي مع الحيوانات كانت أن يرسل إليه امرأة بغي ليقع بحبها، فإذا ما رأته الحيوانات نفرته منه وعرفت ببشريته. 

وهنا متن الأبيات من الملحمة والإيقاع بأنكيدو عبر البغي، فبعد أن يراه الصياد يذهب إلى أبيه ليخبره فيجيبه أبوه:

يا بني: يعيش في أوروك گلگامش  
الذي لا مثيل له في البأس والقوة 
وهو في شدة بأسه مثل عزم أنو 
فأذهب إلى أوروك توجه إليها
وأنبِئ گلگامش عن بأس هذا الرجل 
وليعطِك بغيا تصحبها معك 
ودعها تغلبه وتروِّضه 
وحينما يأتي ليسقي الحيوان من مورد الماء 
دعها تخلع ثيابها وتكشف عن مفاتن جسمها
فإذا ما رآها  فإنه سينجذبُ إليها 
وعندئذ ستنكره حيواناته التي شبت معه في البرية 

وبعد أن ذهب الصياد إلى گلگامش وقد أمره أن يذهب مع بغي إلى هذا الوحش (أنكيدو)، رجع مع البغي وذهبا إلى الوحش وحينما رآياه بعد انتظار 

(فأسر إليها الصياد): هذا هو يا بغي فاكشفي عن نهديك 
اكشفي عن عورتك لكي يتمتع بمفاتن جسمك 
لا تحجي، بل راوديه وابعثي فيه الهيام 
فإنه متى رآك وقع في حبائلك 
انْضي عنك ثيابك لنيجذبَ إليك 
علمي الوحش الغر فن (وظيفة) المرأة 
ستنكره حيواناته التي ربيت معه في البرية
إذا انعطف إليك وتعلق بك 

وبعدها وقع أنكيدو في حبائل البغي ونجحت خطة گلگامش  

وعملت الوحش الغر فن المرأة، فانجذبَ إليها وتعلق بها
ولبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليال 
وبعد أن قضى وطره منها 
وجه وجهه إلى ألفه من حيوان البر 
فما أن رأت الظباء أنكيدو حتى ولت عنه هاربة 

فما كانت من الحيوانات إلا أن تهرب منه بعد أن رأت بشريته وانجذابه إلى البغي البشرية، واستمع إلى البغي وأنصت إليها وذهب معها إلى المدينة (أوروك) ليقابل الملك الظالم ويقاتله عندما منعه من أداء الطقس المقدس في الزواج فيغلبه گلگامش بعد لأي وشد ولشجاعة أنكيدو يتخذه صديقًا. 
يُمكن الوقوف مطولًا عند خطة إغواء أنكيدو من قبل البغي بل ما يرد في بيت "علمي الوحش الغر فن (وظيفة) المرأة" ليوضح لنا الرؤية الجندرية للمرأة في زمانه وهي رؤية رغم اشتداد التضييق عليها في العقود الأخيرة فكانت وما زالت في كثير من تجلياتها موجودة ليطرح سؤالا آخر عن النظرة الذكورية للمرأة أنثى وعن أدوارها المجتمعية والحياتية، ودون أدنى شك لهي نظرة دونية وإن تعلَّق البغي في الحديث إلى بغي. وتوجد صور تكريمية للأنثى في الملحمة سواء في وجود إلاهة أو حتى أم گلگامش  الملكة التي جعلت من أنكيدو ابنًا لها وأخًا لگلگامش، لذا فإن الجوانب الاجتماعية الخاصة بالمرأة في الملحمة تسلط الضوء على أفكارٍ وممارسات حاضرة حتى اليوم في المجتمع الإنساني رغم تقدمه. 

المرحلة الثانية: 
تتمثل المرحلة في مغامرة غابة الأرز ومواجهة الوحش خمبابا وقتله بمساعدة الآلهة، فبعد أن تتوثق عرى الصداقة بين گلگامش وأنكيدو يذهبان في رحلة ومغامرة تتطلب الكثير من الشجاعة إلى غابة بعيدة عن أوروك لكن روح گلگامش الجامحة والمحبة للمجد تحثُّه على خوضها واخذ صديقه معها لتتكلل بقتل الوحش والعودة سالمين إلى أورورك.   
ثم يشهد القسم الثاني محاولة إغواء عشتار الإلهة لگلگامش الذي لا يسقط في حبائلها بل ويتحول من الدفاع إلى الهجوم حين يذكّرها بمعايبها وهناتها مع عشاقها فتغضب الأخيرة وتهدد أباها (آنو) إذا لم يخلق لها ثورا سماويا ينتقم من گلگامش الذي أهانها فإنها ستفتح باب العالم السفلي تجعل الموتى يأكلون الأحياء. لنتحول إلى القسم الأخير من المرحلة الثانية والمواجهة ما بين گلگامش  وأنكيدو وبين الثور السماوي الذي يقتله گلگامش  طاعنًا إياه في ظهره.  

المرحلة الثالثة:
يرى أنكيدو رؤية تُؤولُ أنها موته بعد أن قررت الآلهة قتله، وبعد موته يندب عليه گلگامش  ويحزن ست أيام وسبع ليال، وبعد أن يرى أثر الموت فيه حين ينتشر في جسده الدود، يهيم على وجهه ويقرر الشروع في رحلة إلى جده الناجي والخالد "أوتو-نبشتم" بحثا عن حل لغز الحياة والموت. ويذهب في رحلة طويلة عبر الجبال حتى يصل إلى صاحبة الحانة التي تدله على أور-شنابي ملاح البحر الذي يُوصله إلى أوتو-نبشتم الذي نجى من الطوفان. 

المرحلة الرابعة:
يحكي أوتو-نبشتم لگلگامش قصة الطوفان من بدايتها إلى النهاية، ثم يرشده الطريق التي من خلالها يصل إلى نبتة الشباب في أعماق الماء وبعد أن يجنيها گلگامش تأكلها الأفعى في غفلة من عين گلگامش على الساحل لتنتهي بعدها المحلمة ويعود گلگامش مقتنعًا بمصيره الفاني. وينتهي اللوح الحادي عشر بـ هو الذي رأى كل شيء.
*
ثمة إضافة في اللوح الثاني عشر غير تابعة للملحمة وهي قصة نزول أنكيدو إلى العالم السفلي بعد أن يُسقط گلگامش آلتي عشتار (بكو ومكو "الطبل ومدقه كما يُقترح") اللتين أهدتهما إليه بعد أن تمكن من اقتطاع شجرة الصفاف التي سكنتها أفعى وطائر والشيطانة ليلث لتصنع منها عشتار كرسيا وسريرا.
يُوصي گلگامش أنكيدو بتعليمات حتى لا يُعرِّضَ نفسه لخطر في العالم السفلي فلا يلتزم أنكيدو بتوصيات گلگامش ولا تعليماته عند نزوله العالم السفلي فيبقى هناك لأنها الأرض التي لا رجعة منها، وبعد أن يطلب گلگامش من الآلهة أن تعيد أنكيدو الذي حزن لفراقه؛ تفتح الآلهة فهو تخاطب منها روح أنكيدو گلگامشَ وتخبره عن العالم السفلي وينتهي أيضًا بـ هو الذي رأى كل شيء.
*
يتميز أسلوب الحكي في الملحمة بأنه أسلوب سارد عليم مع فقرات لحديث الأبطال بضمير الشخص الأول. وأسلوب الاستباق الزمني وإظهار أمارات نهاية الحدث قبل وقوعه كما حدث مع موت أنكيدو، ورؤيا گلگامش لسفره إلى أوتو-نبشتم وكذلك في التكرارية للأبيات فضلا عن وحدة الحدث والأسلوب، وهو أمر يُستنتج منه النضج الفني في صياغة الملحمة فضلًأ عن سير الأحداث وتنوعها والحبكة فيها من البداية إلى الذروة ثم النهاية، وما تضمنته من أحداث، تصب جميعها في بنيوية العمل واكتمال الرؤية الفنية التكوينية لكاتب/ كتبة الملحمة.

______

*  يعني اسم گلگامش  المحارب الذي في المقدمة أو الرجل الذي سيكون نواة شجرة جديدة كما يذكر طه باقر في تقديمه. 

** يُكتب في عنوان ثانوي (أوديسة العراق الخالدة) تحت العنوان الرئيس (ملحمة گلگامش )، أرى في هذا العنوان الثانوي إجحافًا بحق الملحمة التي سبقت هوميروس وأبطاله لا سيما وأنها اشتهرت وانتقلت في وقتها إلى المدن الأخرى ولها تأثيرها في آداب الأمم الأخرى، ولا يعني تأخر اكتشافها مقابلةً بملحمة هوميروس أن نصف القديم بجديد لاحق فالأصل أصل والفرع فرع ولا يتقدم الفرع على الأصل فضلًا ولا قدرًا في التسميات، فإن كان اللاحق أفضل من السابق فيبقى السابق باسمه ويبقى اللاحق محتفظًا بقدره لا ينازعه عليه شيء. وما يرد في ملحمة گلگامش كما في اللوح الثاني عشر ورحلة أنكيدو إلى العالم السفلي نجد لها مثيلًا في رحلة أوديسيوس إلى عالم الأموات، وكذلك نجد في حزن گلگامش  على أنكيدو شبهًا قويًا في غضبة آخيل على موت صديقه باتروكلوس في حرب حصار طروادة، وهذا إن لم يكن فيه دليل قاطع يُرتكن إليه فإن ظاهر الأمر يُثبت أنَّ الإلياذة والأوديسة "أشهر" ملحمتي شعر في التاريخ الإنساني متأثرتان بشكل أو بآخر بمحلمة گلگامش، خلاصة القول إنَّ ملحمة گلگامش هي ملحمة گلگامش وملحمة العراق الخالدة فحسب.  

*** يحاول البعض أن يجرِّد الأديان من صفة السماوية وأنها منحولة من الآثار السومرية وما هي إلا كذبة وأنَّ اليهود الذي سكنوا بابل بعد السبي الأول والثاني تأثروا بما عرفوه في أرضهم الجديدة وتأثرت الأديان الإبراهيمية اللاحقة (النصرانية والإسلام) باليهودية وأخذت منها هذه القصة، وهذا اتهام لا يقوم على حجة قوية ولا حتى منطقية لا سيما فيما يخص الإسلام، فالقرآن خصوصًا والدين الإسلامي عمومًا قد أُثبتَ أنه جاء مخالفًا لكثير مما يرد في التوراة والأدلة على ألوهيته ونبوة النبي (صلى الله عليه وسلم) كثيرة لمن يود الطلاع والبحث الجاد البعيد عن الأحكام السالفة والمبيَّتة التوجيه، وأن القرآن كذلك جاء بأشياء لم ترد في الكتب السماوية الأخرى مما يمنحه سمة التميّز والفرادة، قاطعًا أيَّ صلة مُفترضة لتأثرٍ بالعهدين القديم والجديد، ناهيك عن اعتبارات جغرافية واجتماعية ولغوية في زمن البعثة النبوية وما سبقها كلها تُفنِّد هذا الترابط أو التأثر. فإذا ما أثبتنا عدم وجود أي صلة ما بين القرآن والعهدين -وهذا ما تمَّ من قبل الكثير من المتخصصين في هذا المجال قديمًا وحديثًا- فنحن هنا ننتصر للقرآن والإسلام. والأمر الآخر الذي يرتبط في هذا السياق هو حداثة اكتشاف الملحمة الذي يبدأ مع عصر التنقيب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإذا كان لا يوجد صلة تأثر وتأثير بين القرآن والتوراة والإنجيل، وحداثة اكتشاف الملحمة يتضح لدينا وثوقية قصة نبي الله نوح والأهم من هذا بالعودة إلى حادثة الطوفان التي يرويها أوتو-نبشتم الذي قد لا يعني بالضرورة نوحًا (عليه السلام) وأن الطوفان المذكور في المحلمة يؤكد حصول الطوفان الحقيقي المذكور -إن كانا واحدًا- في الكتب السماوية وبهذا فإن الملحمة قد أخذت فكرتها من حدث حقيقي أثبتته الكتب السماوية، وهنا نقف على أن الكتب السماوية والملحمة يتحدثان عن واقعة واحدة يتفقان فيها على حصولها باختلاف مصدر الخبرين فالأول الذي يخص الملحمة هو حكاية الإنسان التي ينقلها من جيل إلى آخر ليشوبها الانزياح الدلالي والدافع العقائدية، والثاني هو الخبر الإلهي الأكيد الذي يقص على الناس حقيقة الحدث وسببه وحيثيات وقوعه. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...