واحدة من أوائل القصائد الأوروبية الملحمية في الألفية الثانية، وأقدم أثر أدبي رئيس فرنسي باقٍ حتى يومنا هذا. يرجع تاريخ تدوين هذه القصيدة ما بين 1125-1150م لشاعرٍ مجهولٍ بيد أنَّ أحداثها التاريخية معروفة وموثَّقة وأضحى أبطالها خالدين ونموذجًا وطنيًا ملحميًا مسيحيًا وفرنسيًّا لا سيما الفارس رولان، المثال لفرسان عصر الشهامة في العصور الوسطى حيث الشجاعة والإقدام والفروسية والنُبل والرفعة والحب العفيف وكل مكارم الأخلاق المسيحية. لم تكن نهاية رولان المأساوية بموته وجميع جيشه في معركة رونسفال على يد الوثنيين والسارازين (المسلمين) في القصيدة إلا بوابة نحو الخلود والمجد فقد دوِّنت القصيدة بعد أكثر من ثلاثة قرون من التاريخ الحقيقي للمعركة، التي جرت وقائعها في الخامس عشر من شهر آب/ أغسطس 778م ما بين ساقة جيش حاكم مملكة الفرنجة الفرنسي، شارلمان، بقيادة رولان، وبين قبائل البشكنس الباسكية وقوات المسلمين في الثغر الأعلى في سرقسطة. وبقي لهذه القصيدة تأثير وحضور في الأدب والفن الأوروبي قبل أن يزداد الحماس تجاهها وتتحول إلى ملحمة فرنسية وطنيّة بعد أن أعلى ذكرها العلامة الشاب فرانسيسكو ميشيل في 1835 ثم نشر طبعة لها بعد سنتين. كما أذكت القصيدة نيران الصراع الديني المسيحي-الإسلامي لا سيما وأنها دوِّنت في أوج الحملات الصليبية وحروب الفرنجة في المشرق العربي الإسلامي مع أنَّ الدوافع لهذه المعركة كانت أبعد ما يكون عن الدين أكثر مما هي توسعات وتحالفات وإخضاع أراضٍ لسيطرة حكَّام الثغراء وأمراء المدن.
معركة ممر رونسفال أو باب الشزري
يرتكز موضوع القصيدة الرئيس على معركة ممر رونسفال في الجبال البرانس الحدودية ما بين إسبانيا وفرنسا. تبدأ الأحداث المسببة لهذه المعركة بعد الاضطرابات في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل ثم استقلال بعض الحكَّام المحليين بمناطقهم، وكان من بين هؤلاء الولاة المستقلين سليمان الأعرابي، والي برشلونة وجيرونة، والحسين بن يحيى الأنصاري، والي سرقطسة. سعى الأعرابي لتثبيت حكمه في المنطقة فزار بلاط شارلمان وأغراه بالقدوم والسيطرة على سرقسطة، الثغر الأعلى للأندلس. قدم شارلمان بجيشه عبر الجبال قبل أن يستقبلهم الأعرابي في برشلونة والتقت جيوش الفريقين قبل الوصول إلى سرقسطة لضرب الحصار عليها، فلما طال الأمد الحصار ولم يُحقق شارلمان المأمول من قدومه قرر رفع الحصار وأسر الأعرابي والعودة به، وأبقى في مؤخرة جيشه حاكم الثغر البريتاني، رولان، لتأمين انسحاب الجيش السريع بعد أن وصلت أخبار إلى شارلمان بتمرد السكسونيين في مملكته. دمَّر شارلمان في قدومه ورجوعه قلاعًا وخرَّب مدينة بنبلونة معقل البشكنس الباسكيين الذين قرروا الهجوم على مؤخرة الجيش بحلف مع ابني الأعرابي، مطروح وعيشون انتقامًا لأبيهما. تحمَّلت ساقة الجيش الفرنسي، المُألَّفة من ثلاثة آلاف مقاتل، بقيادة رولان كل ثقل الهجوم فقتلوا عن آخرهم ولم يستطع شارلمان إنقاذهم إذ تمكَّن من لملمة الاضطراب الذي أصاب جيشه والانسحاب إلى مملكته.
هذه باختصار وقائع معركة ممر رونسفال أو باب الشزري كما تذكرها المدوَّنات التاريخية إلا أنها في القصيدة قد أخذت أبعادًا جديدة وإضافات متعددة ما بين خيالية وأسطورية ومكذوبة لكنها بذات الوقت تُقدِّم لنا وثيقة مهمة في الرؤية المسيحية للمسلمين وعقيدتهم، فما ترويه القصيدة يكاد يكون خاطئًا تمامًا فلا تجد معلومة واحدة أو اثنتين صحيحة ابتداءً من الأسماء إلى سمات الدين الإسلامي ومعتقدات المسلمين.
بطل تاريخيّ أسطوريّ
تحكي القصيدة حملةً للملك شارلمان دامت سبع سنوات داخل الأراضي الإسبانية قبل الوصول إلى سرقسطة ومحاولة السيطرة عليها، فيصل إليه رسول ملك سرقسطة عارضًا الاستسلام والجزية الكبيرة، فيرسل إليه أحد قادته، غانيلون، ليبرم العهد فيما بينهم، إلا أن غانيلون وبسبب خصومته مع ربيبه، رولان، يقرر خيانة شارلمان ويتعهد بهزيمة ساقة جيش شارلمان وقتل قادته. ينسحب شارلمان بجيشه ويبقي رولان مع عشرين ألف مقاتل في الخلف لتأمين المنطقة، لكن سرعان ما يبدأ هجوم الوثنيين والسرازين على رولان وجيشه، وتنشب معركة عظيمة بين الطرفين تنتهي بعد قتال حامي الوطيس بنصر الوثنيين والسرازين.
يبرز في هذه المعركة دور رولان بشجاعته وإقدامه المنقطع النظير فلا يُمكن هزيمته في مواجهة مباشرة وأقرب ما يكون إلى بطل أسطوري خارج من ملاحم هوميروس يُثخن في أعدائه قتلًا وتدميرًا، ولا تقتصر هذه الصفة البطولية الإسطورية عليه فحسب بل تُخلع على بقية القادة معه، ومع علو الحس الدينيّ المسيحيّ أثناء المعركة بالشهادة والفرودس، تُضاف صفة أخرى على رولان وجيشه فهم مؤمنون يقاتلون لأجل المسيحية ضد أقوام همجية وثنية لا تعترف بالدين الحق، ولا تغني عنهم أعدادهم المهولة من الموت بسيوف الجيش المسيحيّ. ويزداد قدر رولان وشجاعته في القصيدة بعد أن يرفض مشورة رفيقه أوليفر بأن ينفخ ببوقه ليعلمَ شارلمان بالهجوم الذي تعرَّضوا لها لأنه يأبى أن يُدنِّس اسمه وعائلته بهذا العار فيقرر القتال بما معه من جنود، لكن في نهاية المعركة وبعد أن يبقى وحده ينفخ بكل ما أوتي من قوة بالبوق ليعلمَ شارلمان بما وقع. لا تقل نهاية رولان أسطوريّة عن حياته وشجاعته لكنها تتداخل مع الدين فيرفعه روحه إلى السماء ملاك الرب كروبيم، والقديس ميشيل، والملاك جبريل، فرولان ليس فارسا مسيحيا في جيش رولان فحسب بل وفارسًا مؤيَّدًا من السماء، ونهايته قدِّيسيّة، وتُردفُ السمةَ الأسطوريةَ على وفاته بحزن السماء عليه فتتلبد بالغيوم السوداء والبرق والرعد حتى يُخيَّل أنَّ نهاية الزمان قد أزفت. لا تتوقف القصيدة عن منح رولان أي صفة ممكنة تزيد من قدره فتذكر أنَّ رولان، زهرة فرنسا، ابن أخ شارلمان لكن هذه المعلومة غير صحيحة تاريخيًا (ليس لشارلمان ابن أخ)، وما إضافتها إلى لتعظيم شأن رولان، وربطه بشارلمان، وما لها هذا الربط من إضفاء أواصر العائلة والقرابة وحميَّتها إلى المعركة بعد أن يعود شارلمان ليثأر لابن أخيه وجيشه. ولا أستبعد أن يكون ارتباط رولان العائلي في القصيدة بشارلمان إلا لقدر ومكانة شارلمان في الصراع المسيحي - الإسلامي، وقامته الباسقة في العالم المسيحي فقد كان إمبراطورا فاتحا أخضع الكثير من الأراضي والأقوام في أوروبا وأجرى إصلاحات كبيرة.
والقصيدة لا تقتصر على التغنِّي بفضائل رولان فلدنيا في الطرف الآخر قُطْب آخر لا يقل عن رولان بل ويفضل عليه وهو شارلمان الملك وقائد الجيش، فإن اكتفت القصيدة بذكر أسطورية شجاعة رولان فإنَّ شارلمان يحظى بأسطورية شاملة فهو أشبه بنبيّ فيُحدِّثه الرب عبر جبريل في المنام وتتنزَّل عليه الرؤى في منامه فهو مُلهم من الرب ومحفوظ من جبريل، ويطلب من الرب أن يُبطئ مغيب الشمس حتى يلحق بأعدائه فيكون له هذا. يحتل شارلمان مكانة خاصة في المواجهة المسيحية الإسلامية في القصيدة، فنرى التعظيم والحب الكبير الذي يكنه جيشه له والكره الخاص والحقد الدفين من الوثنيين والسرازين له، فالقصيدة بهذا تكشف عن مكانة شارلمان في نفوس المسيحيين وهي منزلة نالها لمآثره في حياته وحروبه ضد المسلمين وكذا الحال مع كره المسلمين له والسعي من أجل إلحاق هزيمة نكراء به أو إصابته بمقتل أو إيلامه بقتل رولان ابن أخيه.
فيظهر شارلمان حامي المسيحية وقائد جيشها السماوي ورسول الرب ويكشف الجزء الأخير من القصيدة عن قدر شارلمان في أربعة أحداث مهمة:
تتمثل الأولى بالانتقام لمقتل رولان وإبادة جيشه، فهذا ما لم يحدث في الحقيقة لكنه وقع بالقصيدة فالآمال معقودة على شارلمان للانتقام في الخيال وقبل الخيال في الواقع، فهو إن لم يفعلها في الواقع فقد فعلها في الخيال، فلم تنتقص القصيدة من قدره بذكر انسحابه بل كسته بمأثرة لم يفعلها. والثانية حين أبقى على ملكة سرقسطة حيّة وأخذها معه إلى مملكته ليحوِّلها إلى المسيحية بتأثير الحب وكان له ما أراد حيَّن عُمِّدت وآمنت بالدين الحق كما تنصُّ القصيدة. والثالثة بمحاكمة غانيلون الخائن التي انتهت بقتله وتقطيع أوصاله، فهو هنا حارس الأمة وحافظها من الخونة والمنتقم من أعدائها ولو كانوا أبنائها. والأخيرة حين يأتيه جبريل في المنام يدعوه إلى نصرة المسيحيين الذين يجأرون إليه طلبًا لعونه وبهذا تنتهي القصيدة، وما هذا الاستدعاء إلا تأكيد لقدر شارلمان في الدفاع عن المسيحية ونصرتها ضد أعدائها.
مسلمون في عيون مسيحية
تصوِّر القصيدة المسلمين تصويرًا منافيًا للواقع والحقيقة، ويثير هذا التصوير الاستغراب والعجب في آن واحد، فكيف يُمكن بعد كل تلك المدة التي قضاها المسيحيون في حرب المسلمين ومجاورتهم في الأندلس ألا يعرفوا حقيقة دينهم أو معلومات قليلة صحيحة عنه إلا لو كان هذا التصوير المشوَّه الكاذب متعمدًا لإذكاء الروح المسيحية في نفوس جمهور المتلقِّين ورسم صورة بغيظة للعدو دون ترك أي فرصة لتقريبه حتى لو اضطر الشاعر أن يكذب في قصيدته من أجل مسعاه. لكن من الممكن أيضًا، ونظرًا لعدم وجود أي معلومة صحيحة تقريبًا في القصيدة، أنَّ هذا التصوير للمسلمين في القصيدة نابع من جهل الشاعر بهم واعتماده على أخبار وقصص خرافية تحكيها العامة لا سيما في تلك العصور حيث الخرافة والقصص الغريبة تُصدَّق بسهولة ويزداد الوضع سوءًا حين تكون هذه القصص مرتبطة بعدو بسطَ يده على أراضٍ واسعة وبنى مملكة عظيمة، وفي المقابل ما يزال العالم المسيحي الأوروبي يعيش في ظلامية وجهل وتخلف وأغلبه يعيشون في الزراعة وظروف سيئة فضلا عن انتشار الجهل. وبغض النظر عن السبب الحقيقي وراء هذه الصورة فالقصيدة تمنحنا بشكل أو بآخر صورة المسلم في عين عدوه وكيف نُظر إليه وما هي عاداته وطبيعته ومعتقداته.
بدايةً مع الأسماء فالقصيدة تُسمي المسلمين بـ"السارازين" ولا تُذكر كلمة مسلم أو إسلام، واختُلِفَ في معنى سارازين إلا أن تاريخ استخدامها لوصف العرب قديم أطلقه الإغريق على عرب الشام، واستخدمَ فيما بعد لوصف المسلمين ثم الترك بعد اتساع نفوذ العثمانيين، أما أسماء القادة والمحاربين والشخوص المسلمين في القصيدة فكلها غربيّة وليس فيها أي اسم إسلامي. ولعل أبرز تصوير للمسلمين هو المتعلق بالعقيدة فالسرازين يعبدون ثلاثة آلهة -ربما مقابل للثالوث المسيحي- هم محمد وأبولو وتيرفاغانت. وشخص النبي (صلى الله عليه وسلم) معروف وتعظيمه لا يقتصر على السرازين بل كذلك على حلفائهم الوثنيين الذين يُمجِّدون صورته ويرفعونها، وأبولو إله الشمس الإغريقي، وتيرفاغانت فهو إله مجهول وأقرب تفسير له هو الهلال. وعبادة السرازين لمحمد عبادة ربوبيّة فيطلبون من النصر والحماية وهزيمة الأعداء إلا أنها عبادة مصلحة وانتفاعٍ فقط فحين يُهزمون نراهم يكفرون به وبأبولو وتيرفاغانت ويحطمون نُصُبهم وصورهم، وما هذه الفعلة إلا تأكيد على بطلان هذا الدين وزيف هذه الآلهة وأنَّ الدين المسيحي هو الدين الحق وأن شارلمان وجيشه يُقاتلون قومًا يعبدون الشيطان، فحتى أرواح السرازين حين يموتون يقبضها الشيطان. لنقف أمام صراع دينيّ، دين الحق ينصره الرب من عليائه هو الدين المسيحي، ودين الباطل تخذله آلهته المزيَّفة ووليه الشيطان هو دين الوثنية والسرازين.
لا يتوقف الأمر هنا فالسرازين لا يقاتلون وحدهم فمعهم الوثنيون والبشكنس والبربر والأفارقة والترك والعرب والفرس، لذا فالحرب دينيّة عالميّة تشارك فيها كل أعراق البشر المعروفة في القصيدة وتنتصب المسيحية في مواجهة كل هؤلاء الكفَّار وتقاتل لأجل دينها بمباركة الرب وتهزمهم. فكان لزامًا وفقًا لهذه الرؤية أن يعلو الخطاب الديني المسيحي في القصيدة فالحرب دفاعٌ عن المسيحية، والتأكيد أنها الدين الحق، ومن يموت في أرض المعركة شهيد ومصيره الفردوس، والحضَّ على الثبات أثناء مواجهة العدو وعدم الفرار. لذا فإن الوعظ الديني والحثّ العقائدي جزء من نسيج نص القصيدة ليمنح القصيدة البعد المسيحيّ الحاضّ على مواجهة العدو الوثني العابد للشيطان، فتعمل على شحذ النفوس وتكريه العدو ودعوتها إلى قتاله.
*
تفتقر القصيدة إلى العناصر الفنيّة البارزة واستُخدمت فيها تقنية الاستباقية مرة واحدة حين ذكرت مصير غانيلون، ومن غير المؤكَّد إن كان هذا الاستخدام عن وعي أو ورد تعليقًا على النص من الشاعر، فالمقطع غير متّسقٍ مع المقطعين السابق واللاحق له. كما أن لغة القصيدة شحيحة بلاغيًا ويرد فيها تعبير هوميروسيّ مرة واحدة كناية عن الموت وهو "عضَّ الأرض"، وتشبيه اللحى في مواضع كثيرة بالأزهار البيض أو ورد الربيع الأبيض، وتشبيه الخيول السريعة بالطيور .
كما يلاحظ المبالغة في ذكر أعداد السرازين وحلفائهم إلى درجة الخيالية فهي تصل إلى مئات الآلاف مما يفرض ضمنًا مع قلة عدد الجيش المسيحي شجاعة منقطعة النظير أقرب ما تكون إلى خيال طفولي منه إلى قصيدة بإبداعٍ ناضجٍ، فهي تشبه في هذا الملاحم الهندية في المبالغة في ذكر الأعداد وشجاعة الأبطال، وكذلك السيرَ الشعبيةَ العربيةَ وما فيها من أعداد وقوة الشخصيات غير المنطقية، ويزيد الأحداث أسطورية وجود عمالقة وتنانين في جيش المسلمين لكن وجودهن مجازيّ فقط إذ لا يذكر لهن دور في المعركة قط. وتأخذ القصيدة تتابعًا زمنيًا متصاعدًا من البداية إلى النهاية دون أي قفزات أو تنوع في سير الأحداث بين الماضي والحاضر سوى تلك الاستباقية التي يُذكر فيها مصير غانيلون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق