(كتبت شارلوت برونتي هذه الحكاية (المقالة) في 16 حزيران/ يونيو 1842 وأُخرَ غيرها حين ذهبت مع أختها إيميلي إلى بروكسل للدراسة في مدرسة البنات الداخلية Pensionnat. كُتبت هذه المقالات في الأصل باللغة الفرنسية في درس الأدب الذي كان يُديره المسيو قسطنطين هيغر. اعتمد هيغر أسلوب تعليم يقوم على تقديم نماذج أدبية لكتّاب فرنسيين ثم يطلب من طالباته كتابة مقالات تُحاكي أساليبَ النماذج المدروسة. ومن الواضح في هذه المقالة أن شارلوت تحاكي قصص لافونتين عن الحيوان، الذي هو الآخر يُحاكي القصص الشرقية والعربية عن عالم الحيوان كما في قصص كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. عُثر على هذه المقالة في متحف في بلجيكا عام 2011، وترجمتُها من كتاب The Brontës in Brussels لهيلين ماكيوان).
*
كان هناك جُرذٌ أرهقته حياةُ المُدن، والبلاطات (لأنه قضى شطرًا من حياته في قصور السلاطين وصالونات كبار السادة)، جُرذٌ بخبرِةِ أيامٍ حنَّكته، وفي مدة قصيرة، تحول من فردٍ في حاشية الملك إلى فيلسوف، وانسحب إلى بيته في الوطن (حفرة في جذع شجرة دردار) حيث عاشَ متنسِّكًا ومكرِّسًا كل وقته واهتمامه بتعليم دَرْصِه الوحيد.
لم يتلقَّ الجرذُ الصغير، الأبله بعض الشيء، بعدُ الدروسَ المفيدة القاسية التي تمنحه الخبرة، وأضجرته المنقاشات الواعية مع والده. وعوضًا عن أن تكون ظلالُ الغابة وهدوءها نعمةً على نفسه فقد أتعبتها. ترعرعَ توَّاقًا بفارغ الصبر للارتحال ورؤية الدنيا.
في إحدى الصباحات اللطيفة، نهضَ مبكرًا وجمعَ زادًا يسيرًا من حبوبٍ وجبن في متاعه، ودون التفوه بكلمة لأي أحدٍ، هجرَ العاقُ والده ومسكنه الأبويّ وغادرَ إلى أراضٍ مجهولة.
بدت الدُنيا بادئ بَدْء زاهيةً وجذَّابة في ناظره؛ الأزهار رافلةٌ في نضارتها والأشجار مكسوَّةٌ بخضرةٍ لم تقعْ عيناه على مثلها في موطنه قط، ثم رأى بعض الأعاجيب: حيوان بذيل أطول من جسده (كان السنجاب)، ومخلوق صغير يحمل بيته على ظهره (كان الحلزون). وصلَ بعد بضعِ ساعاتٍ إلى حقل، وجذبته رائحة الطبخ الذكيّة، دخل فِناءَ الحقل حيث رأى طيرًا عملاقًا كان يُصدرُ ضوضاء مُزعجة بخَطْوِه في هالةٍ من العنفٍ والزهو. كان الطائر ديكًا روميًا، بيد أن جُرذنا أُخذَ به وحسبه وحشًا فخاف من مظهره وولَّى هاربًا.
بحلول المساء، دخلَ غابةً وقد هدَّه التعب وأعياه فاستراح أسفلَ شجرة، وفتح متاعه الصغير، ثم تناول عشاءه وتوسَّد الأرض نائمًا.
استيقظَ على صوت قُبَّرة وأحسَّ بالبردَ قد خدَّر أطرافه، وأذاته الأرضُ التي توسدها فراشًا؛ تذكَّر والده، تذكر الكافرُ بالنعمة عنايةَ ورقّةَ الجرذ المسن الطيّب، رسمَ بلا طائل مساراتِ مستقبله، لكن بعد فوات الأوان فقد جمَّد البردُ الدماءَ في عروقه. كانت التجربةُ معه عاشقةً متزمِّتة، ولم تعلِّمه سوى درسٍ واحدٍ تكتنفه عقوبة واحدة هي الموت.
وجدَ نجارٌ في صباحِ الغد الجثة، ما رأها إلا شيئًا مقزِّزًا دفعه بقدمه، ومرَّ بدون أن يخطر بباله أنَّ من يستلقي هنا هو الابن العاق لوالده الرؤوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق