يعود جاسم إلى أرض الوطن بعد أربع سنوات، ليحضر جنازة والده، ليجد نفسه أمام صدام مباشر مع الذاكرة والماضي والوطن والمبادئ والحرية والحب والعائلة، تأخذنا بثينة العيسى في رواية كل الأشياء، إلى عالم جاسم وعبد المحسين العظيمي، صراع القديم والتجديد في السياسة، الأب الذي كان ثائرًا ضد سلطة يرى وجوب فيها وجوب التغيير والإصلاح، يقف أمام جيل جديد يُطالب ما كان يُطالب به هو الأمس القريب، لكنه هذه المرة يتخندق مع الحكومة في خندق واحد.
عبد المحسن العظيمي كان فكرة، هذا الهاجس الذي يُلاحق ابنه حتى بعد وفاته، وهو الحبيس في أتون والده، تمزق بثينة الصورة القُدسية للأب، هذه الخطوة التي قلّما تتواجد في الأدب العربي، نظرًا للتفوق الأخلاقي والسلطوي المعطى للأب، وتلك الصورة الخرافية المرسومة له على مر العصور والأجيال، كان لا بد من وقفة جادة، لإبراز بشرية الأب، لا للانتقاص منه بل لوضع الأمور في نصابها الصحيح، كانت هذه الوقفة متمثلة في جاسم وموقفه السياسي المعارض لوالده، الخلاف بين الابن والأب، لم يكن خلافا سياسيا فقط، بل اختلاف مبادئ وتعارض توجهات وقيم، بل ودكتاتورية السلطة في قمع المعارضين، في زمن أصبح إبداء الرأي والتعارض مع الآخر المتفوق عليك، جريمة تُدان بها، هذا ما عاناه جاسم العظيمي في حياته التي كما بدأت انتهت بصراع مستمر من أجل وطن.
الأدب في مواجهة السياسة، كيف يُمكن للكتابة أن تكون سلاحًا ناجعًا يقض مضاجع الحُكّام حين يضع أصبعه على موضع الجرح ليُوقظ النائم، ويُرشد الصاحي، فهو يحمل رسالة، وله غايته، وفي الموضع الذي تفقد فيه كل القدرات على الإصلاح والتغيير وتعديل مسار سياسة البلد، تلجأ للقلم، الذي لا يُخيّب الظن حين يكون بين يدي كاتب حقيقي يعرف كيف يزن الكلمات ويُعطيها صوتا، تسمعه الأُذن الصماء.
كل الأشياء، هي بالفعل كل الأشياء التي يجب أن نستخدمها للمواجهة، جاسم الذي اختار المواجهة بالكتابة، بدا في كثير من الأحيان ضائعا في أفكاره فاقدًا للحزم وحائرا في أي موضع يضع قدمه، هذا التردد الذي جعله في حالة من التشتت، ليبدو كثيرا من المرات أن يفعل ما تمليه عليه اللحظة الراهنة، رغم كل محاولاته أن يكون سيد الماضي والباحث المستكشف للمستقبل، من أجل حاضر أفضل وخطوة تكون بقدر نجاحها فعّالة وذات تأثير، ضربة تحت الحزام تُفقد الخصم توازنه، لكنه قليل التدبير متعجّل، وهذا ما جعل لحياته طابعًا مأساويا.
سجن الذاكرة، أن يتحول أبوه لفكرة، فهو يواجه السياسة وهي ترتدي ثوب الأبوة، يقف بوجه سياسة أبيه، هي الخروج عن التقاليد والمتعارف عليه، هي خروج عن قانون شكّ ثم أيقن بعدم صلاحيته، وكانت المواجهة هي الخيار الأخير، ليشمل الربيع العربي الكويت أيضا، هكذا كان يطمح مع غيره من "أطفال السياسة" كما سماهم أبوه، لكن البحر الذي مخروا سفينتهم فيه أكبر وأقوى من سفينة بلا قُبطان وبحّارة لا يعرفون السباحة.
تتحول الرواية في بعض فصولها إلى أدب السجون، لكنها تبدو ضعيفة، ولا ترقى إلى المستوى الذي تُؤثر فيه على مشاعر القارئ، أو تنقل له تلك الأحاسيس التي تنتاب السُجناء، حتى ليبدو كثيرا من الأحيان أن السجن ليس له ذاك التأثير على المسجون، رغم محاولة بثينة أن تُصور لنا الحالة النفسية الداخلية لجاسم داخل السجن وما عاناه، والحالة الخارجية المتمثلة بعلاقته مع السجّان أو السُجناء، لكن الضياع في مشاعر وتصورات لم تكتمل صورتها في ذهن الكاتب جعلها عقيمة، بلا أي نسل يلامس وجدان القارئ، على العكس لو نقرأ لعبد الرحمن منيف وروايته في أدب السجون، وتلك القدرة السردية في نقل السجون ومعاناتها وعذاباتها وكل ما تحمله من مآسي، والصراع النفسي والأخلاقي والتشتت ما بين داخل السجن وخارجه، ليصب كل هذه في بياض الورقة ليتشربها القارئ وتستفز كيانه الإنساني الأخلاقي قبل كل شيء آخر.
يفشل جاسم في الوصول لنتيجة بعد محاولة التغيير، لكن يضعه القدر في حلبة الصراع الدائم والدائر بين سلطة قمعية وشعب يطمح للحرية، لكن الصراع هذه المرة يأخذ أبعادًا أخرى، فساد اقتصادي يُودي بحياة أنفس بريئة، وهنا أيضا يُثبت أنه غِرٌّ ويخطو دون تدبير أو تمحيص، وأن بلدًا ما زال يعيش في ظل حكومة رثّة الأسس والمبادئ، لن تنجح أمامها بسهولة ولن تفلح في الانتصار وكشف المستور بكتابة مقال.
الطريق الذي يسلكه جاسم وكتبت عنه بُثينة، وقد سبقها الكثير، يطرح علينا سؤالا مهما، أيمكن للأدب أن يواجه السياسة وما هي فرص نجاحه؟ لا تُعطينا الوقائع أملا ولا حتى الروايات التي غالبا ما تنتهي بفشل الأبطال في تحقيق مُرادهم. الأدب يُمكن أن يكون معارضا للحكم وللسياسة الخاطئة، أن يُنير الدرب للجماهير، أن يُشعل مصباحًا في ذهن الأفراد، لكنه لا يملك القوة الكافية للتغيير، فالتغيير ليس مجرد أفكار وآراء نظرية تُطرح على أمل أن يتكفلها الجميع ويتجمعون حولها، وأنجع الحلول ليكون للأدب تأثيره الأكبر والفعّال حين يكون كاتبه في أرض لا تصل لها يد الآخر الذي يطمع لتمزيقه، فكثير ما تموت الأفكار بموت أصحابها، وليس الأدب ببعيد عن هذا المصير. حتى لا يفقد الأدب فعاليته بمواجهة السياسة يجب أن يُحضّر أسلحة الدفاع قبل الهجوم، فأن تتحول المواجهة إلى انتحار، هذا يعني أن نفقد آخر سلاح نملكه ونراهن عليه في أحلك الظروف وأسوأها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق