هذا الكتاب هو أحد الكتب ضمن سلسلة تختص بالرواية الحديثة وتطورها تعمل الأستاذة لُطفية الدليمي على ترجمتها، مشكورة، وقد ترجمت ونشرت أيضا كتاب الرواية المعاصرة لروبرت إيغلستون، لتُثري المكتبة العربية ذات الفقر الواضح -كما تشير- للكتب التي تتناول الرواية الحديثة، والتي لا تستغني أي مكتبة في العالم أن تحتوي أكبر عدد ممكن الكتب والدراسات لأجل فهم الرواية والعمل على تطويرها فهي كما توضح الأستاذة لُطفية في تقديمها لهذا الكتاب مجيبة عن سؤال لماذا الرواية؟ فتقول الرواية نوع من الذاكرة الجمعيّة المميزة لكل جغرافية بشرية، الرواية اليوم تؤدي عمل الأسطورة في الأمس، الرواية تقوم على التخييل وتقوم داخل فضائها، تستحث على التفكير والخيال، خاصة مع تطور التقنية وتحول العالم إلى أشبه بسلة خوارزميات، ركد فيها الخيال البشري، إذن فالرواية هي الإناء الذي يحوي ويحفظ الخيال والفكر البشري وإبقائه في إطاره الإنساني التحليلي بعيدًا عن تحوله إلى جزء من العالم التقني المحيط به، والذي يقوم بكل شيء نيابة عنه تقريبا. وكذلك لكون الرواية وخاصة من تطور علم النفس، يُمكن أن تؤدي دورًا علاجيا لبعض الذي يعانون الاضطرابات الذهانية، نظرا لما تقدمه من مساحة لإبراز وإعلاء الأصوات المكتومة في داخل النفس البشري. ومن أهم ما تذكره عن دور الرواية هو فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشري والخيال الإنساني.
مقدمة الكتاب الذي يفتتحها جيسي ماتز بسؤال، أية حداثة؟
وهو تقديم عن معنى الحداثة وما هي الرواية الحديثة، وكيف نعرف الرواية الحديثة، والتي يعرفها بأنها "تلك الرواية التي أنشأت قطيعة مع الماضي، وجعلت من نفسها شكلا جديدا، ومهدت الطريق أمام الحداثة المستقبلية.
ويأخذ أربعة أمثلة عن الرواية الحديثة في بدايات القرن العشرين والتي تمثلت في أربعة شخصيات روائية هي: جيمس جويس وجين تومر وفرجينيا وولف وغريتورد شتاين. وبعد عرض الصفات الحداثية في رواياتهم، يلخصها في هذه الصفات: "وضع الواقع موضع المساءلة الروائية، وتشظي العمل الروائي واحتشاده بالجمل التلقائية والأصوات الشخصية من داخل الرواية". والحداثة كما يُبين مستشهدا بعديد الأمثلة، مرتبطة بالحركة المستمرة، اللا توقف، في عالم متجدد باستمرار، فالرواية الحديثة هي التي تقرأ الواقع المتغير وتحاكي تغيره وتتجدد باستمرار، فهي في حالة انزياح عن الماضي والتصاق بالمستقبل الآتي، هي اللا تموضع واللا تخندق، هي الحاضر الذي يسعى إلى الأمام دائما بطرق مختلفة لا تُشابه سابقاتها.
شمل الفصل الأول من الكتاب على بدايات الرواية الحديثة التي تمثلت في الكاتب الأمريكي هنري جيمس، والروائيون الحداثيون الأوئل وبمقدمتهم جويس وولف وفوكنر وهمنغواي ود.هـ لورانس، فالحداثة الروائية هي التحرر من التعقيدات والقيود الماضية، والنظرة التقليدية والبحث عن الجدّة والحداثة، وتحديث الرؤى للحياة وماهية وهيئة مضيها وتقدمها ونقل هذه الرؤية الجديدة إلى الرواية من خلال الشخصيات، وجعلها أكثر واقعية في الطرح أو التعامل مع الذات والآخر والواقع، ببساطة ووضوح ومباشرة، دون إثقالها بعناصر غير حية أو سرد لما هو غير ذو تأثير على الشخصية أو ذي صلة بالواقع. ولا يعني الانحياز نحو البساطة البدائية السذاجة، بل البساطة التفكيكية لهذا الواقع وللنفس البشرية. وشمل الفصلان الثاني والثالث الواقع في الرواية الحديثة والأشكال الجديدة في الرواية الحديثة. إذ الواقع في الرواية الحديثة لم يعد شيئًا خارجا عنا وينبغي للروائي وصفه، بل بات عملية اشتباك مع الوعي (مجموعة أفعال شخصية، أداء سيكولوجي، شيء في حالة جريان من الصيرورة والتغيير).
فهو أكثر دقة وانغماسٍ مع الواقع الملموس الذي يعيش فيه الإنسان، حيث يعمد الروائي الحداثوي على تفكيكه ومساءلة المُسلَمات، واختبار الحقائق، وعدم الالتزام بالطريقة التقليدية في التعامل معه ونقله إلى الرواية، بل نقل الرواية إلى الواقع.
كما أن للحداثة تأثيرٌ على الواقع الروائي مما أدى إلى ظهور تحديث للواقعية في الرواية، فكان لازما أن يتغير الشكل الروائي من الداخل في ثورة تحديثية على الشكل القديم، وما يناقشه هذا الفصل من تحديثات التي طرأت واتسمت بها الرواية الحديثة ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول هو اختفاء لشخصية البطل وظهور وما يسمى اللا بطل أو ضديد البطل Anti-hero في الرواية، والقسم الثاني يختص بالحبكة، ومفهوم جديد للحبكة، فلم تعد الحبكة تعني تغييرا في المواقف والشخصيات، بل أصبحت في مدى الحفاظ على الأفكار والتوجهات، والرغبات، وعدم التخلي عما تروم إليه أو تؤمن به الشخصية. القسم الثالث ما يخص السارد العليم الكلي المعرفة، هو الآخر انتابه التغيير، فقد كان السارد شخصا عليما بكل ما سيدور في الرواية، وللشخصيات، ونهايات الأحداث، وفي خضم الحداثة والتطور المستمر من الذي له بإمكانه الإجابة على كل هذه التساؤلات المتشككة والمظاهر المزيفة؟ يتساءل جيسي ماتز. هذا ما دفع الروائيين الحداثيين تجاه النظرة المتموضعة بؤريا Focalization، من خلال التركيز على جانب محدد من الحياة، التي تستطيع الشخصية إدراكه. القسم الأخير وهو الذي شمل السرد الخاص بوعي الشخصيات، فلا يمكن الاستمرار بسرد وعي الشخصيات، بذات الطريقة التي تُسرد بها الشخصية من الخارج، وكان للتطور السردي دوره التأثير في سرد الوعي، من خلال لغة خاصة والمنطق وتراكيب الجمل والهيكل العام للسرد، يكون فيها تدفق الأفكار والجمل، دون تدخل مباشر من السارد "وذلك بغية جعل السرد أكثر صدقية وخليقا حقا بكشف انفعالات العقل المختلفة".
والفصول الثلاثة اللاحقة الأخرى، فهي عن معضلات الرواية الحديثة، وتناول قضايا الواقع، ومساءلة الحداثة. إذ يأخذنا جيسي ماتز لمعرفة المعضلات الجديدة التي تواجه الرواية الحديثة، والتي تتمثل بعنصرين رئيسيين هما التعامل مع الزمن ليس باعتباره خطا زمنيا واحد كما اعتادت الروايات أن تستخدمه كترتب زمني تتابعي (كرونولوجي)، بل من خلال التعامل معه بطريقة مغايرة تشمل عدم الترتيب والقفز والتركيز على الصعوبات في سرد الأحداث الماضية بصورة زمنية منتظمة ومتسلسلة وأفضل مثال على هذا التحديث الزمني في الرواية هي رواية البحث عن الزمن المفقود للروائي الفرنسي بروست. والعنصر الثاني الذي يمثل معضلة تعاملت معها الرواية الحديثة وإن بصورة أقل من تعامل الروائيون الحداثيون من الزمن الروائي هو المكان ليس كأنه خلفية ثابتة في الرواية تدور فيه الأحداث، بل جعلوه أكثر تماهيا في الرواية وأكثر تخصصا وتحديدا في تناول المكان في الوقت التي أصبحت فيه المدينة أكثر مساحة وتوسعا. وفي الفصل الخامس تناول متشعب للمواضيع التي عالجتها الرواية الحديثة، ودخولها إلى محاكاة الواقع ومشاكله وكيفية الدفاع عن قضايا معينة أو كشف اللثام عن أخرى، حيث لا بد أن يكون للرواية دورها الجدي والحقيقي مع ما يشهده هذا العصر من تطورات ومستجدّات وما جلبه من تغييرات سواء على المستوى السياسي والعسكري المتمثل في الإمبريالية الأوروبية في أفريقيا أو الهند، والحقائق التي حاول بعض الروائيون مثل كونراد وإي. أم. فوستر الكشف عنها، حول مساوئ الاستعمار التي تتنافى مع روح العصر والحضارة التي يتم الحديث عنها والعمل بمقتضاها.
الفصل السادس ومساءلة الحداثة، حيث جرَّ الروائيون الرواية من عليائها وجعلها تلامس الأرض الصلبة كما فعل روائيون كثيرون أمثال لورانس وجويس وهيمنغواي وكاثر. وكما يقول لوكاش على الرواية الحديثة أن تنسق بين متطلباتها الجمالية الداخلية الجديدة مع الأشكال الجديدة مع المسؤولية المجتمعية. وكذلك الانفتاح أكثر على الأنماط الثقافية الدنيا. إضافة لدور التقنية الحديثة وتداعياتها ومساهمتها في بعث أنماط إلهامية جديدة.
الفصل السابع ورواية ما بعد الحداثة، أصاب الروائيون في النصف الثاني من القرن العشرين، شعور بنضوب واستنفاد للرواية الحديثة، مما أدى إلى شيوع نزعة جديدة ما بعد حداثية، يعمل جيسي ماتز في هذا الفصل على تتبعها، ومميزاتها التي اختلفت عن الرواية الحديثة إذ جاءت تفكيكية ومضادة لكل صفات الرواية الحديثة، سواء من خلال النظرة للواقع والسرد والحبكات والشخصيات واللغة الروائية كوسيط بين الواقع والرواية. أما الفصل الثامن من الكتاب، والحداثة ما بعد الكولونيالية في الرواية في المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار الأجنبي، وهذا النوع من الرواية يمثل مرحلة الصراع الثقافي والحياتي مع بقايا الاستعمار وتشكيل ثقافي ذاتي كلي لهذه المناطق. والتي أنتجت أشكال أدبية جديدة، استثمرت من فترة الاحتلالات مادة خصبة في كتابة الرواية للتعبير عن الحياة المجتمعية الجديدة التي تبلورت من جديد واستعادت ذاتيها، وعملت على رتق الصدع الذي نشأ في فترة الاستعمار من أجل الالتحاق بركب العالم الجديد.
يختتم الكتاب باستنتجات وقراءات لوضع الرواية الحديثة أو المعاصرة أو رواية ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، ومواضيعها المتنوعة ما بين الانفتاح على الآخر والتعددية الثقافية، والعولمة وعالم ما بعد الكولونيالية أو ما بعد القومية، وما جلبته التكنولوجيا من تطورات وقفزات تقنية وما دخل إلى الرواية من خلال ما بات يُسمى بالرواية الرقمية Digital Novel واستثمارها للتقنية الرقيمة في سرد الرواية. عالم اليوم الذي يبدو إلى أنه أكثر قربا واتصالا بين أجزائه المختلفة والمتباينة عرقيا وثقافيا ودينيا وحضاريا أكثر من أي وقت خالٍ، كل هذه المواضيع فرضت نفسها على الرواية وألقت بظلالها على الروائيين من أجل ظهور تحديث جديد للرواية سواء في تعاملها مع الواقع أو قضاياه أو حتى لغة التواصل بين الواقع والقارئ ودور الكاتب الوسيط بين الاثنين.
لقراءة وتحميل ملخص الكتاب الكامل في هذا الرابط:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق