(سواء أكتب الشاعر شعرا أم نثرا، وسواء نحت في المرمرِ أم صب تماثيلهُ من البرونز… فهذا رائع، والشاعر حر) فيكتور هيجو، تمهيد "ديوان الشرقيات".
كتاب قصيدة النثر لسوزان برنار، هو الكتاب الذي يمثل المرجع الأول والأهم لقصيدة النثر، وفيه تبحث سوزان عن تاريخ قصيدة النثر وبداياتِها في القرن الثامن عشر، ودور الترجمة في إضفاء بعد حيوي لغوي وشعري للقصيدة عند ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، مستعرضة شعراء قصيدة النثر كبودلير ورامبو ولوتريامون ومالارميه، وتأثر قصيدة النثر بالحركات الشعرية والأدبية كالرمزية والطبيعية والتكعيبية والدادائية والسريالية. الكتاب غني بالأطروحات والآراء وسير شعراء قصيدة النثر.
اقتباسات من الكتاب:
سبق لي أن قلت أن قصيدة النثر تفترض إرادة واعية للانتظام في قصيدة، وينبغي أن تكون وحدة عضوية مستقلة، مما يتيح تمييزها من النثر الشعري الذي هو ليس غير مادة، وشكل من الدرجة الأولى إن شئنا، يمكننا انطلاقا منه أن نبني كذلك مقالات وروايات وقصائد. وسوف يقودنا ذلك إلى التسليم بمعيار "وحدة العضوية": فمهما تكن القصيدة معقدة وحرة في مظهرها فإن عليها أن تكون وحدة واحدة، وعالما مغلقا، خشية أن تفقد صفتها كقصيدة. وإذا ما أضفت إلى ذلك أن القصيدة هي تنسيق جمالي متميز وإنها تختلف عن القصة القصيرة والمقالة (مهما تكن شاعرية) فكأنما نقول أشياء بدهية، ونقتحم أبوابا مفتوحة؛ والحقيقة أن من الصعوبة بمكان هنا أن نرسم الحدود. ويمكن أن يحدث على سبيل المثال أن تعنون القصيدة "حكاية" والعكس صحيح.
تأثير الترجمات:
1- إن الأب (بريفو) الذي أراد أن يبين أن القافية ليست جوهرية في الشعر، يقدم برهانا بـ"نجاح عدد من الترجمات المكتوب ب(النثر الشعري) فنقلت إلى لغتنا كل مفاتن الشعر الأجنبي من دون اللجوء إلى القافية… وإن "لهذه القصائد وزنها، مع أن هذا الوزن ليس موحدا". وهذه ملاحظة ذات أهمية قصوى: إذ نصل في الواقع هنا إلى أحدى النقاط الجوهرية لمساق "تجاوز فن النظم" الشعري.
2- إن المترجمين في الواقع هم أول من أصر على ضرورة تحرير اللغة الشعرية، وإعطائها أكثر تنوعا وسحرا. كان (هوبير) الذي ترجم "الجرة المكسورة" لـ(جيسنير) يوضح أنه يفضل "استخدام الكلمة الحقيقية"- أي "الجرة" وليس "الكأس" أو "الوعاء" - بدلا من كلمة نبيلة ولكن غامضة لا تنسجم مع المعنى.
يحتل رامبو في تاريخ قصيدة النثر مكانة راجحة، مركزية ولا تعوض وذلك لسببين:
أولا: لأنه أشار وبقوة إلى العلاقة الضرورية بين الصيغة الشعرية الجديد وذلك البحث عن المجهول الذي جعل من الشعر الحديث محاولة ميتافيزيقية أكثر من كونه شكلا فنيا.
ثانيا: لأنه بعدما ربط المثال بالمفهوم، أراد أن يصبح هو نفسه "سارق النار" وأعطى نموذج قصيدة النثر الأصلية تماما من حيث المفهوم والتقنية، ومارس تأُيره في الشعر اللاحق كله، هذا التأثير الذي لا يبدو عليه أنه على وشك أن ينطفئ.
عظام شعراء الرومانتيكية الثانية يقرنون البحث عن أشكال تعبيرية جديدة بمفهوم ميتافيزيقي للشعر، ويعدون قصيدة النثر (بوعي أو دون وعي) على أنها في آن واحد تمرد على نظام الأعراف الاجتماعية والفنية، وأداة "بحث روحي" لبلوغ المجهول أو المطلق.
قصيدة النثر في الواقع مبنية على اتحاد المتناقضات ليس في شكلها فحسب، وأنما في جوهرها كذلك: نثر وشعر، حرية وقيد، فوضوية مدمرة وفن منتظم… ومن هنا يبرز تباينها الداخلي، وتنبع تناقضاتها العميقة الخطرة- والغنية؛ ومن هنا ينجم توترها الدائم وحيويتها.
ولدت قصيدة النثر من رغبة في التحرر والانعتاق. ومن تمرد على التقاليد المسماة "شعرية" وعروضية، وعلى تقاليد اللغة.
ولا يهم إذا ما كانت القصيدة مكتوبة بالشعر أو النثر، وإنما المهم أن نجد فيها ذلك
"النغم الجوهري" الذي يمنحنا أصالتها ويجعل منها عالما صغيرا يحتل مكانه وسط عالم أوسع.
بعد عام 1930 أصبحت قصيدة النثر شكلا شعريا ذا أهمية من الدرجة الأولى تستجيب لمصادر إيحاء جديدة كثيرة مما تستجيب لطموحات فنية. فبعد عام 1930 لم تعد قصيدة النثر "جنسا" مستقلا أو ضربا من ممارسة المهارة بل هي أحد الأشكال التي يحتاج إليها عمل أدبي قيد التأليف وتبقى -مع ذلك- مستخدمة إلى جانب الشعر النظامي والشعر الحر.
وتهدف قصيدة النثر خلال تلك الحقبة كلها إلى "الفعالية" أكثر مما تهدف إلى الجمال الشكلي وتريد أن تكون أداة قوة أكثر من كونها "شيئا جماليا" فهي ترمي لأن تصبح "سحرا إيحائيا" مع بودلير، أو أن تقودنا نحو المجهول مع رامبو، أو أن تتمرد على الخلق وآلية اللغة مع لوتريامون، أو أن تسعى لبلوغ المطلق مع مالارميه عن طريق تركيب حاذق لأزلية البيت الشعري و"تماسك" النثر.
وربما تكون معركة الأنواع والأشكال هذه قد سمحت في الأقل لقصيدة النثر بأن تبسط ميدان إمكاناتها، وللمفاهيم الشعرية الجديدة أن تتحدد معالمها لأن الشعر ليس وقفا على شكل أو نوع معينين. إنه رؤية للعالم وتجربة روحية أكثر مما هو فن ومجموعة طرائق. كما أن التجربة الداخلية للشاعر وموقفه أمام الكون هما اللذان يحددان الشكل الشعري الواجب استخدامه.
لقد كررت القول مرارا بعدما قلت في الباب الذي خصصته لجمالية قصيدة النثر أن الشروط العضوية لقصيدة النثر مضاعفة: فهي الشكل الشعري لفوضوية محررة في صراع مع القيود الشكلية. وكذلك نتيجة لإرادة تنظيم فني يسمح لها أن تتخذ شكلا وتصبح كائنا موضوعا فنيا. وإذا لم ينفذ واحد من هذه الشروط فإن قصيدة النثر محكوم عليها بالموت، تارة بالشيخوخة والشكلية وقلة الطاقة الحيوية، وتارة بالعجز عن أن تتخذ شكلا وبقلة الحدود والذوبان في النثر البحت.
ويمكننا التسليم على أية حال بأن الشعراء الحقيقيين حينما يأتون إلى النثر بعد ما كتبوا بالشعر فإنهم لا يأتون إليه برغبة في أن يمنحوا أنفسهم تسهيلات أكثر، وأنهم في الأقل قد قدموا البرهان بأنهم كانوا قادرين على الكتابة بالشعر وإنهم لم يتنازلوا عن ذلك إلا رغبة في "شيء آخر". هل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن قصيدة النثر "التي يبتكرها نثري مطلق على نحو منتظم" هي "اعتراف بالعجز" على الدوام؟ هذا ليس أكيدا- ولكن أمثلة هؤلاء "الناثرين المطلقين" قد تكون نادرة جدا حتى أننا نستطيع أن نغض الطرف عنها" فـ ألوزيوس بيرتران نفسه نجهل أشعاره قد كتب شعرا، ولا شيء يمكن أن يؤكد لنا أن لوتريامون لم يكتب شعرا.
وبهذا فإن قصيدة النثر -وهي نوع من التمرد والحرية- تعني ثورة الفكر، ومظهرا من مظاهر النضال المتواصل للإنسان ضد مصيره أكثر من كونها محاولة لتجديد الشكل الشعري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق