الجمعة، 30 يوليو 2021

قصة حقيقة أو تاريخ حقيقي

 

لوقيانوس السميساطي 


قصة إبداعية تخيَّلية كتبها لوقيانوس دوَّن فيها مشاهد رحلته العجيبة في البحر والسماء بين الجزر الغريبة التي لا مثيل لها وما واجه من أخطار ومُلمَّات مثل الحوت ومعارك القمريين والشمسيين. يُمهِّد لوقيانوس لقصته هذه بما يُوضح فيه سبب كتابته لها ويكشف عن استخدام ما بات يُعرف اليوم بما وراء القص (Metafiction)، فهو ساخط وناقم على السابقين من مؤرخين وشعراء وفلاسفة ممن كتبوا عن أشياء لم يَرَوْها وكأنها حقائق دامغة وأحداث وقعت بما لا يقبل الشك ولم يقولوا لقرَّائهم أو مستمعيهم إنَّ هذه الحكايات الخرافية والقصص الأسطورة أكاذيبُ فقط، وإنَّه في قصته هذه يكتب بدافع الدعابة والتهكم والمحاكاة الساخرة لمواضيع أولئك فهو وإن يكتب الأكاذيب فهو يعترف للقارئ منذ البداية أنَّ ما يكتبه أكاذيب محضة لا أكثر ولا أقل. فيذكر من هؤلاء الذين يخصُّهم بالكذب العمد المؤرخ هيرودوتس وستيسياس ولامبولوس وأوديسيوس بطل هوميروس وما قصه من أكاذيب على ملك الفياكيين، ألكينوس. يقول لوقيانوس "إني، وبفضل غروري، كنت متحمسًا لترك شيء للأجيال القادمة حتى لا أكون الوحيد المُستثنى من امتيازات الإجازة الشعرية، وبما أني لا أملك شيئًا صحيحًا لأقوله، وليس لي أيُّ مُغامراتٍ شائقة، فقد شرعت بالكذب. لكنَّ كذبي أصدق كثيرًا من كذبهم، فمع أني لن أقول الصدقَ في الآتي فسأقرُّ في الأقل هنا صادقًا أني كاذب. وحسبي أن بمقدوري الفرار من رقابة العالم باعترافي الذاتي بأني لن أقول كلمة واحدة صادقة. وليكن معلومًا إذًا بأني أكتب عن أشياء لم أرها قط ولا علمتها من الآخرين، وهي في الواقع، غير موجودة على  الإطلاق، ووفقًا لطبيعة العالم فلا يُمكن أن تُوجد. لذا فواجب على قرَّائي ألا يصدقوا بأي شكل من الأشكال بما كتبته".

تُجلي هذه الكلمات الصدأ عن حقيقة أنَّ تقنية ما وراء النص، التي استخدهما كتَّاب ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، قد استخدمها من سبقهم لكن الفرق أنَّه عاش في القرن الثاني للميلاد. فهم كما لوقيانوس يشددون فيما يكتبون على حقيقة أنَّ ما يكتبونه  خيال فحسب وليس له ارتباط بالواقع بأي شكل ولا صلة له بالحقيقة بل هو خيال محض. 

إنَّ الهدف يتضح هنا هو تسلية القارئ بقصص مُختلقة وحكايات مكذوبة، كما تبرز لدى لوقيانوس غاية النقد والتهكم والسخرية ممن كتبوا ولم يُقرِّوا بأن ما يكتبون هو محض خيال غير موجود. فهو لا يريد التماهي مع الواقع وأن نصه منفصل عن الحقيقة انفصالا تامًا. يرى بعضهم أنَّ هذا النص رواية قصيرة أو نوفيلا لكنها لا تكشف عن أي بُنية روائية ولا براعة فنية فهي تدوين مشاهدات في رحلة بين جزر البحر وما حصل للبطل ورفاقه في هذه الرحلة، وتجري بخط زمني تصاعدي واحد، والسرد بضمير المتكلم في الزمن الماضي، وليس ثمة صوتٌ سردي آخر في النص، ولا نرى تطورًا في شخصية السارد، ولا نكاد نشعر بوجود برفاق السارد، لوقيانوس نفسه، وحتى الشخصيات التي يلتقون بها في الجزر التي يصلون إليها لا تكشف عن عمق نَفْسي ولا حضور شاخص فالشخصيات جميعا أشبه بصور متحركة ومتكلمة فقط، والنص مُقسَّمٌ إلى فقرات متصلة تمثل كل فقرة جزيرة أو حدث يمر به السارد ورفاقه، ثم يتكرر أسلوب الفقرات التي تفرق إحداهما عن الأخرى في التفاصيل تقريبًا فحسب، لذا فيمكن وصفها بأن مجموع مشاهدات أو مجموعة قصص لرحلة واحدة، كما أني قرأت مكتوبًا في غلاف الترجمة العربية، ترجمة عادل داود، لهذا النص "أول رواية في تاريخ الخيال العلمي كتبها في القرن الثاني الميلادي لوقيانوس السميساطي" وأرى أنَّ هذا الوصف غير حقيقي بتاتًا ولا نرى في النص أي خيال علمي بل خيال بشري إذ لا دور للعلوم في نص لوقيانوس وكل ما يصفه من عجائب الطبيعة حتى الرجال المشاة الذي يستطيعون الطيران باستخدام ثيابهم كأشرعة لا يذكر شيء عن هذا الطيران مرتبطٌ بالعلم. لكن هذا لا يقلل من قيمة النص وما يصفه من عجائب وصنائع بديعة لم يعرفها البشر، فالنص عجائبيّ وقوَّته في جموح خياله وإن كانت بعض المخلوقات أو الأحداث يعتمد فيها على ما ذكره سابقون ويستحضره بإحالة هازئة أو محاكاة ساخرة. 

ومن العجائب التي يذكرها لوقيانوس في نصه جزيرة ذات نهر ماء وآخر خمر، وأشجار ذات جذع امرأة، ومخلوقات العملاقة وهو أكثر ما تميَّز به النص، إذ كبر الحجم المخلوقات يُضفي عليها العجب فتوجد النسور الكبيرة الحجم المستخدمة خيولا، والنمل الكبير الحجم، والطيور الضخمة جدًا، والبراغيث العملاقة، والبعوض بحجم مهول، ورجال بوجوه كلاب، والخيول المجنَّحة والدلافين الكبيرة، وعن جنس لا نساء فيه ويتكاثرون بزواج الرجال لبعضٍ ويلدون الأطفال بعد أن يحبلوا بهم في عضلة الساق، ورجال يُولدون بالزراعة لا يموتون بل يتحولون إلى دخان يتلاشى في الجو، وحيتان ضخمة لا سيما ذلك الحوت العملاق جدًا الذي يبتلع سفينتهم ويجدون بداخله جزرًا وغابات وناسًا، ورجال شُعورهم ألسنة لهب، ورجال أقدامهم من الفلين لذا فإبمكانهم السير والجري على الماء، ونساء البحر، وغير ذلك من العجائب. 

ومن الجزر التي يصل إليها جزيرة النعيم الأبدي التي يلتقي فيها رجالًا سابقين من شعراء وأبطال حقيقين وخياليين فيلتقي بهوميروس وأوديسيوس وألكسندر المقدوني وهيلين الجميلة فيحاورهم بعد أن يمكث في الجزيرة سبعة شهور، فيسأل هوميروس عن اسمه الحقيقي وأصله، ويطلبُ أوديسيوس منه أن يُوصل رسالته إلى الإلهة سيرسي في جزيرتها سائلًا إياها إن كان عرضها ما زال قائمًا بشأن زواجهه ومنحه الإلوهية والشباب الخالد، وما تزال هيلين الخائنة على عادتها لم تتبْ منها. ويصل بعدها إلى جزيرة العذاب وجزيرة الأحلام قبل أن يصل في آخر المطاف إلى عالمه الذي جاء منه مع عددٍ من رفاقه الذين نجوا في هذه الرحلة. 

      


لوقيانوس السميساطي



كاتب وأديب وسفسطائي من السميساط، منطقة على الفرات الأعلى، وهي اليوم ضمن حدود دولة تركيا، عاش في القرن الثاني للميلاد ولا يُعرف الكثير عن حياته ومن المرجَّح أنه وُلد في عام 125م وتُوفي في 192 أو قبلها بقليل كما يُورد إلياس غالي في مقدمته لترجمة مسامرات الأموات، تنقَّل بين البلاد القريبة منه ورحل إلى أثينا حيث عمل بالسفسطة وتأثر بالفلاسفة الكلبيين لا سيما مينيب وديوجين اللذان كان لهما الأثر الجلي فيه، وهما أكثر شخصيتين تردان في كتابه مسامرات الموتى واستفتاء ميت وبالأخص مينيب، لكنه لم يتفلسف ولا كتب بالفلسفة قط. تشي كتاباته باطلاع واسع وكبير على شعر الأقدمين والفلسفة والتاريخ وأعلامها. للوقيانوس مؤلفات عدَّة من بينها مسامرات أو محاورات الأموات، وتاريخ حقيقي، ومحاورات الآلهة، عن الإلهة السوريّة، ومزاد الفلاسفة، وعاشق الكذب، ولوكيوس أو الحمار، وغيرها. 

ينتهج لوقيانوس في كثير من كتاباته النهج الهازئ والتهكميّ والمحاكاة الساخرة (البارودية)، كما أنَّ كتاباته نقد اجتماعي وفكري لعصره ولسابقيه متبعًا خطى الكلبيين في الجرأة والصراحة والوضوح دون تزلُّف أو تردد أو مبالاة بأحد ويبدو هذا جليًا في مسامرات الموتى وفي تاريخ صحيح. 


مسامرات الأموات


يتكون كتاب مسامرات الموتى من ستٍ وعشرين مسامرة تجري على ألسن الموتى في عالم الأموات، هاديس، حول مواضيع شتى ما بين فلسفية وحياتية وتاريخية لكنها ذات طابع نقدي قاسٍ من انتقاد حياة الملذات والأسى عليها بعد الموت، والتفكك الأسري الأخلاقي وانتشار الفساد، والطمع والجشع، والثراء الفاحش والمجد الزائف، والفلاسفة فيصف أرسطو على لسان الإسكندر بالمتلق المدّاح لأجل الثروة وهو دجَّال غرَّار، وأن لا شيء يدوم سوى الحكمة والمعرفة وينتقلان مع الميت إلى عالم الأموات حيث المساواة بين الرفيع والوضيع والغني والفقير والشجاع والجبان والملك والساقي فلا قوة بعد الموت ولا جمال ولا أي شيء يتميز به أحد على آخر. 

ثمة الكثير من الشخصيات التي تظهر في المسامرات ما بين حقيقية وخيالية ووهمية مثل الإسكندر المقدوني وهنيبعل وهرمس وبولتون وشارون (خارون) ومينيب، وديوجين، لا سيما الأخيرين اللذين ظهرا عديدا وبالأخص مينيب، الشاعر والفيلسوف وهو من الجيل الثالث من المدرسة الكلبية.  

تبرز أهمية هذا العمل أنه خُصص كاملًا عن العالم الآخر ونقل تفاصيل الأموات وما يجري بينهم من حوارات أو خصومات، وهو بهذا يكون سابقًا لأعمال أخرى لاحقة كانت عن العالم الآخر مثل رسالة الغفران والكوميديا الإلهية. لم يكن لوقيانوس أول من تطرق إلى العالم الآخر وأجوائه وسكَّانه فقد ذكرهم هوميروس في الأوديسة حين نزل أوديسيوس إلى هاديس لمقابلة العرَّاف لمعرفة طريق العودة إلى إيثاكا وكذا الحال مع آينياس في الإنيادة لفرجيل وذهابه إلى العالم السفلي لمقابلة أبيه ومعرفة الطريق إلى المدينة الموعودة بعد دمار طروادة على يد الإغريق. وأحسب أن لوقيانوس أول من كتب عملًا كاملًا عن العالم الآخر والأموات لكني غير متأكد من هذا، وتبقى قادم القراءات والاطلاعات في البتِّ في كشف ريادة هذا الكتاب في هذا الموضوع.  


قصة حقيقة أو تاريخ حقيقي 


قصة إبداعية تخيَّلية كتبها لوقيانوس دوَّن فيها رحلته العجيبة في البحر والسماء بين الجزر الغريبة التي لا مثيل لها وما واجه من أخطار ومُلمَّات مثل الحوت ومعارك القمريين والشمسيين. يُمهِّد لوقيانوس لقصته هذه بما يُوضح فيه سبب كتابته لها ويكشف عن استخدام ما بات يُعرف اليوم بما وراء النص (Metafiction)، فهو ساخط وناقم على السابقين من مؤرخين وشعراء وفلاسفة ممن كتبوا عن أشياء لم يَرَوْها وكأنها حقائق دامغة وأحداث وقعت بما لا يقبل الشك ولم يقولوا لقرَّائهم أو مستمعيهم إنَّ هذه الحكايات الخرافية والقصص الأسطورة أكاذيبُ فقط، وإنَّه في قصته هذه يكتب بدافع الدعابة والتهكم والمحاكاة الساخرة لمواضيع أولئك فهو وإن يكتب الأكاذيب فهو يعترف للقارئ منذ البداية أنَّ ما يكتبه أكاذيب محضة لا أكثر ولا أقل. فيذكر من هؤلاء الذين يخصُّهم بالكذب العمد المؤرخ هيرودوتس وستيسياس ولامبولوس وأوديسيوس بطل هوميروس وما قصه من أكاذيب على ملك الفياكيين، ألكينوس. يقول لوقيانوس "إني، وبفضل غروري، كنت متحمسًا لترك شيء للأجيال القادمة حتى لا أكون الوحيد المُستثنى من امتيازات الإجازة الشعرية، وبما أني لا أملك شيئًا صحيحًا لأقوله، وليس لي أيُّ مُغامراتٍ شائقة، فقد شرعت بالكذب. لكنَّ كذبي أصدق كثيرًا من كذبهم، فمع أني لن أقول الصدقَ في الآتي فسأقرُّ في الأقل هنا صادقًا أني كاذب. وحسبي أن بمقدوري الفرار من رقابة العالم باعترافي الذاتي بأني لن أقول كلمة واحدة صادقة. وليكن معلومًا إذًا بأني أكتب عن أشياء لم أرها قط ولا علمتها من الآخرين، وهي في الواقع، غير موجودة على الإطلاق، ووفقًا لطبيعة العالم فلا يُمكن أن تُوجد. لذا فواجب على قرَّائي ألا يصدقوا بأي شكل من الأشكال بما كتبته".

تُجلي هذه الكلمات الصدأ عن حقيقة أنَّ تقنية ما وراء النص، التي استخدهما كتَّاب ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين، قد استخدمها من سبقهم لكن الفرق أنَّه عاش في القرن الثاني للميلاد. فهم كما لوقيانوس يشددون فيما يكتبون على حقيقة أنَّ ما يكتبونه  خيال فحسب وليس له ارتباط بالواقع بأي شكل ولا صلة له بالحقيقة بل هو خيال محض. 

إنَّ الهدف يتضح هنا هو تسلية القارئ بقصص مُختلقة وحكايات مكذوبة، كما تبرز لدى لوقيانوس غاية النقد والتهكم والسخرية ممن كتبوا ولم يُقرِّوا بأن ما يكتبون هو محض خيال غير موجود. فهو لا يريد التماهي مع الواقع وأن نصه منفصل عن الحقيقة انفصالا تامًا. يرى بعضهم أنَّ هذا النص رواية قصيرة أو نوفيلا لكنها لا تكشف عن أي بُنية روائية ولا براعة فنية فهي تدوين مشاهدات في رحلة بين جزر البحر وما حصل للبطل ورفاقه في هذه الرحلة، وتجري بخط زمني تصاعدي واحد، والسرد بضمير المتكلم في الزمن الماضي، وليس ثمة صوتٌ سردي آخر في النص، ولا نرى تطورًا في شخصية السارد، ولا نكاد نشعر بوجود برفاق السارد، لوقيانوس نفسه، وحتى الشخصيات التي يلتقون بها في الجزر التي يصلون إليها لا تكشف عن عمق نَفْسي ولا حضور شاخص فالشخصيات جميعا أشبه بصور متحركة ومتكلمة فقط، والنص مُقسَّمٌ إلى فقرات متصلة تمثل كل فقرة جزيرة أو حدث يمر به السارد ورفاقه، ثم يتكرر أسلوب الفقرات التي تفرق إحداهما عن الأخرى في التفاصيل تقريبًا فحسب، لذا فيمكن وصفها بأن مجموع مشاهدات أو مجموعة قصص لرحلة واحدة، كما أني قرأت مكتوبًا في غلاف الترجمة العربية، ترجمة عادل داود، لهذا النص "أول رواية في تاريخ الخيال العلمي كتبها في القرن الثاني الميلادي لوقيانوس السميساطي" وأرى أنَّ هذا الوصف غير حقيقي بتاتًا ولا نرى في النص أي خيال علمي بل خيال بشري إذ لا دور للعلوم في نص لوقيانوس وكل ما يصفه من عجائب الطبيعة حتى الرجال المشاة الذي يستطيعون الطيران باستخدام ثيابهم كأشرعة لا يذكر شيء عن هذا الطيران مرتبطٌ بالعلم. لكن هذا لا يقلل من قيمة النص وما يصفه من عجائب وصنائع بديعة لم يعرفها البشر، فالنص عجائبيّ وقوَّته في جموح خياله وإن كانت بعض المخلوقات أو الأحداث يعتمد فيها على ما ذكره سابقون ويستحضره بإحالة هازئة أو محاكاة ساخرة. 

ومن العجائب التي يذكرها لوقيانوس في نصه جزيرة ذات نهر ماء وآخر خمر، وأشجار ذات جذع امرأة، ومخلوقات العملاقة وهو أكثر ما تميَّز به النص، إذ كبر الحجم المخلوقات يُضفي عليها العجب فتوجد النسور الكبيرة الحجم المستخدمة خيولا، والنمل الكبير الحجم، والطيور الضخمة جدًا، والبراغيث العملاقة، والبعوض بحجم مهول، ورجال بوجوه كلاب، والخيول المجنَّحة والدلافين الكبيرة، وعن جنس لا نساء فيه ويتكاثرون بزواج الرجال لبعضٍ ويلدون الأطفال بعد أن يحبلوا بهم في عضلة الساق، ورجال يُولدون بالزراعة لا يموتون بل يتحولون إلى دخان يتلاشى في الجو، وحيتان ضخمة لا سيما ذلك الحوت العملاق جدًا الذي يبتلع سفينتهم ويجدون بداخله جزرًا وغابات وناسًا، ورجال شُعورهم ألسنة لهب، ورجال أقدامهم من الفلين لذا فإبمكانهم السير والجري على الماء، ونساء البحر، وغير ذلك من العجائب. 

ومن الجزر التي يصل إليها جزيرة النعيم الأبدي التي يلتقي فيها رجالًا سابقين من شعراء وأبطال حقيقين وخياليين فيلتقي بهوميروس وأوديسيوس وألكسندر المقدوني وهيلين الجميلة فيحاورهم بعد أن يمكث في الجزيرة سبعة شهور، فيسأل هوميروس عن اسمه الحقيقي وأصله، ويطلبُ أوديسيوس منه أن يُوصل رسالته إلى الإلهة سيرسي في جزيرتها سائلًا إياها إن كان عرضها ما زال قائمًا بشأن زواجهه ومنحه الإلوهية والشباب الخالد، وما تزال هيلين الخائنة على عادتها لم تتبْ منها. ويصل بعدها إلى جزيرة العذاب وجزيرة الأحلام قبل أن يصل في آخر المطاف إلى عالمه الذي جاء منه مع عددٍ من رفاقه الذين نجوا في هذه الرحلة. 

      


الأربعاء، 28 يوليو 2021

التوابع والزوابع - ابن شُهَيْد الأندلسي



ما تزال ذخائر العرب مليئة بالأدب النفيس والعلم الجليل والخيال السامي واللغة البهيّة والأشعار الرفيعة اللغة والأسلوب، وهي على عراقتها لم تحظَ بما تستحقه من اطلاع ودراسة واحتفاء لا سيما تلك التي تميَّزت دون غيرها وبزَّت نظائرها عند باقي الأمم لسبق الإبداع ووضوح الفكرة وجودة السبك والصياغة وعذوبة الألفاظ وجزالة المعاني، فلم تكن خبط عشواء ولا لملمة أفكار ولا جمع منثور ولا سرد خواطر بل مكتوبة على درجة من الدراية ومحبوكة بعناية ومضبوطة الفكر والغايات وإنَّ المرء ليكلَّ قبل أن يحصرها جميعًا أو يقف على ما دوَّنه العرب والمسلمون بالعربية فبحرها لُجيٌّ يُهلك المغامر وساحلها بعيد لا يصل إليه إلا بحَّار ماهر. 

لم يقتصر كتَّاب العربية على اللغة والبلاغة وعلومها وشجرة الأدب وأغصانها البهيّة والشعر والشعراء والرسائل والمنثور بل شملت أيضًا القصص والنصوص الخيالية التي تبحثُ في الغيبيات وتُثير الأسئلة فيما تتعمق به وتتناوله بإعمال الفكر والكتابة، فلنا في الكتاب الكبير المتنامي الذي تحده حدود ولا تدري لقصصه تخوم، ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة (وإن كان الأصل غير عربي فإن النص مُعرَّب تماما) والمقامات، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، والرسالة الكاملية لابن النفيس، وحيَّ بن يقظان لابن الطفيل، والتوابع والزوابع لابن شُهَيد الأندلسي، وهو مادة مقالتي هنا، والسير الشعبية. ولهذه النماذج من الأدب الخيالي أهمية كبيرة لما فيها إبداع وريادة يكشف عن تنوع الأدب العربي وعدم افتقاره إلى أي من أجناس الأدب وإن كان مُقلًّا في الأدب الخيالي لكن حضوره شاخص ولا يقلل منه أو يُنكره إلا من لم يطلع على هذه النصوص الأدبية فرأيه ناقص وحكمه مردود عليه ولا يؤبه له. كما أن هذه النصوص فيها من الأسلوب وفنون السرد وتقنياته ما لا تخفى على عارف أو قارئ نبه ولنا في رسالة الغفران وفنَّها السردي خير مثال، وفي الحكاية الإطارية التي أبدعها ابن المقفع وفي جنوح الخيال في قصص ألف ليلة وليلة والمنطقية السردية والمنهج القصصي لشهرزاد، وفي أغراض القصِّ في حي بن يقظان وفاضل بن ناطق في الرسالة الكاملية، وفي إبداع فن المقامات التي هي فن عربيٌّ خالص، وفي السير الشعبية. فنحن أمام إرث أدبي كبير ليس بطارئ ولا سطحي ولا سخيف ولا مؤلفوه مجاهيل بل مشهود لهم بالإبداع والبيان والحصافة والتمكُّن من اللغة فأمسكوها من تلابيبها وأوثقوا إسارها فكانت لهم تَبعَا، وبهم يُفاخر الكاتب الأديب وينافح العاقل الأريب ويحفظ قدرهم الرجل الأريب.    

إنَّ نص التوابع والزوابع رحلة عجيبة إلى أرض الجن تسبق بعث المعري لابن القارح إلى العالم الآخر بنحو عشر سنين كما يُرجح محققه بُطرس البستاني. فيسافر ابن شُهيد، الشاعر الأندلسي، مع جنّيِّ شعره، زُهير بن نُمَير، إلى إرض التوابع (جمع تابعة وهي جنية تحب الإنسان فتتبعه حيث ذهب) والزوابع (جمع زوبعة وهو رئيس الجن أو اسم شيطان)، فيلتقي بجن الشعراء والخطباء والكتَّاب ونوابغ اللغة والأدب. وهو يسير في فكرة رسالته الأدبية هذه على سيرة العرب حين زعموا أنَّ لفحول الشعراء جنًّا يعلمونهم الشعر ويعينونهم عليه يسكنون في وادِ عبقر في اليمن، وهو وادِ جن الشعراء، وإليه نسبة صفة عبقريّ، ووضعوا لجَمْعٍ من الشعراء أسماء قرائنهم من الجنِّ. لذا فإن من يلتقي بهم ابن شُهَيد في أرض الجن هم أصحاب هؤلاء الشعراء والكتَّاب ولكل منهم اسم وصفة خاصة بهم إلا أن ابن شهيد قد قرن الصفات والسمات والسلوك وجعلها قريبة ومتشابهة بالمعروف عن الشعراء والكتَّاب فنرى صاحب امرئ القيس فارس على فرسٍ شقراء وصاحب أبي نواس قد أفرط في السكر وشرب الخمر حتى طاش عقله وغاب، وهكذا مع البقية التي يرد ذكرهم وإن كان ابن شُهيد قليل الوصف مكتفٍ بالنزر اليسير منه فلا يُمكن الخروج بقراءة مستفيضة في هذا التجسيد والتوصيف للجن. 

*

ابن شهيد 382 - 426 هـ (992-1034م)    


أبو عامر أحمد بن أبي مروان بن عبد الملك بن مروان بن أحمد بن عبد الملك بن شُهيد، يعود نسبه إلى غطفان، وكان جده أحمد بن عبد الملك وزير الخليفة الناصر بن عبد الرحمن الثالث في الدولة العامرية. 

ولد ابن شُهيد في قرطبة وعاش فيها تربّى ونَبَغَ وأحبَّها حبًّا جمًا رغم ما مرَّت فيه المدينة من فتن واضطرابات وشهدته من صعاب حين عضَّها الدهر بنابه. ومما يُذكر في حبه لقرطبة أنه حين استقرَّ الأمر لعبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور على طائفة بلنسية بعث يستدعي ابن شُهَيد من قرطبة إلا أن الشاعر رفض برسالة كتب فيها:

‏وقد كان أقلُّ حقوق مولاي أن أقف ببابه، وأخيم بفنائه، وأهدي إليه الشكر غضًّا، وأنثر عليه المديح نضًّا (خالصا). لكني ممنوع، وعن إرادتي مقموع؛ يملكني سلطان قدير، وأمير ليس كمثله أمير: شيء غلب صبر الاتقياء، واستولى على عزم الأنبياء، وهو العشق: والذي أشكو منه أغرب الغرائب، وأعجب العجائب: بثٌّ شاغل، وبرح قاتل، وصبر بغيض، ودمع يفيض، لعجوز بخراء، سهكة درداء (كريهة الرائحة بلا أسنان)، تُدعى قرطبة: 


عجوز لعَمْرُ الصبا فانيه 

‏لها في الحشا صورة الغانيه


‏زنت بالرجال على سنها

‏فيا حبذا هي من زانيه


لم يفارق ابن شُهيد المدينة ومات فيها بعد مرضته الأخيرة في عام 426 هـ. عُرف ابن شُهيد في حياته بحبِّه لحياة الملذات والمجون ومجالس اللهو والشراب، وجمعته بأعلام المدينة وحكَّامها صداقات وعداواتٍ كان من أبرزها صداقته بابن حزم الأندلسي الظاهري صاحب الفصل في الملل والأهواء والنحل وطوق الحمامة، وكانت بينهما مكاتبات وأشعار ومراسلات، والمؤتمن حاكم بلنسية. لكن العداوات والخصومات التي يُفردها البستاني بقسم في تقديمه لرسالة التوابع والزوابع كان لها أثر جليّ في كتاباته "فهؤلاء الخصوم والحسَّاد أقضوا مضجع ابن شُهيد، وكدَّروا صفوا حياته السياسية والاجتماعية، وأقلقوا حياته الأدبية باعتراضاتهم ومناقضاتهم، فشغلوا جانبًا من شعره ورسائله، وحملوه على اصطناع النقد، وتصنيف رسالة التوابع والزوابع".

لابن شُهيد أشعار ورسائل وكتابات لم تصل إلينا كاملة بل متناثرة في بطون الكتب ومنها هذه الرسالة، التوابع والزوابع إذ لم يعثر على مخطوطة لها حتى اليوم كما يذكر البستاني، وإنما ما بلغ فهو ما أثبته أبو الحسن بن علي الشنتريني الأندلسي في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وليس يعرف في تاريخ تدوين محدد لهذه الرسالة إلا البستاني يُرجِّح بشواهد تحليلية من الرسالة أنَّ زمنها يعود إلى عام 414 هـ وقبل نحوٍ تسع سنوات من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري المكتوبة في عام 424 هـ. وذكر رسالة الغفران هنا لتشابه الوارد في الرسالتين في الرحلة إلى أرض الغيب والمجهول وإن اختلفت التفاصيل الداخلية وبُنية العملين إلا أنهما يتقاربان دون أن يتقاطعا ويتماثلان دون أن يتناسخا، ويميل البُستاني إلى تأثر المعري بها لأن معاصرهما أبا منصور الثعالبي قد دوَّن في كتابه "يتيمة الدهر" بعضًا من آثار أبي عامر الشعرية ورسائله النثرية، ولهذا فمن الممكن أن تكون هذه الرسالة قد هاجرت إلى المشرق. وسواء كانت قد هاجرت الرسالة إلى المشرق أو لم تُهاجر وعرفها المعري أو لم يعرفها، فإنَّ ذلك لا يبخس شيئًا من رسالة الغفران ولا قدرها الأدبي والفني وإن دارت مادة الرسالتين حول الشعر والشعراء فإنَّ لكل منهما عالمها الخاص وبُنيتها واختلافاتها المميزة عن صاحبتها، كما أنَّ لرسالة الغفران أصول دينية واضحة جليّة ليست بحاجة إلى التوابع والزوابع اللهم إلا لتقدح زناد فكر المعري وهذا غير مُستبعد. وقد كتب البستاني دارسًا التشابه بين العملين وإن كنت لا أميلُ إلى هذه المقاربات لإثبات التأثر والتأثير لأن رسالة الغفران حلقة من سلسلة أعمال تناولت العالم الآخر، عالم ما بعد الموت، فكانت رؤيتها خاصة وإبداعية وجديدة من نوعها بجمعها ثلاثة عوالم في نص أدبي واحد (الجنة - أرض المحشر - النار)، ثم تطوَّرت هذه الرؤية على نحوٍ أكثر دقة وتفصيل وحجمًا في كتاب دانتي، الكوميديا الإلهية. وهذا موضوع شائق لبحث مفصَّل خاص أرغب بالكتابة فيه في موضع آخر في قادم الأيام إن شاء الله. 

أما رسالة التوابع والزوابع فهي سفر في عالمنا الأرضي ولقاء بأصحاب الشعراء والكتَّاب من الجن التوابع والزوابع، وقد كتبها ابن شُهيد كما يتضح من أحاديثه مع أصحاب الأدباء لأجل إثبات نبوغه الأدبي وفحولته الشعرية وأصالته الفكرية فيتلقَّى الإجازة والإقرار من جن الملك الضلِّيل والمتنبي وأبو نواس وآخرون، بل ومن أصحاب أمراء النثر والبيان فيصفه صاحبا الجاحظ وعبد الحميد الكاتب بأنه شاعر خطيب، فجمعوا له بلاغة الشعر وسحر النثر على حدٍ سواء. إنَّ هذه الرسالة انتصارٌ للذات ومنافحة عن النفس وتبكيت الخصوم إذ لم يقتصر ابن شُهيد على جن الشعر والنثر للأدباء السابقين فقد شِهدت رسالته ذكر لأهل عصره والتقى بصاحب مُعاصره أبي القاسم الإفليلي.   

*

يكتب ابن شُهَيد لصاحبه أبي بكر، إذ يفتتح رسالته بالقول "لله أبا بكرٍ" (والمعنيّ هو كما يكتب البستاني في الهامش أبو محمد بن حزم الأندلسي المعروف. ولا أدري ما سبب تغيير الكنية أو إن كان المقصود فعلًا ابن حزم أو رجلًا آخر يعرفه ابن شُهيد)، ليخبره عن رحلته إلى أرض الجن بعد أن التقى ذات مرة في مجلسه، حين كان ينظم الشعر ذات مرة فارتِجَ عليه القول، بفارس بباب المجلس يظهر مغاضبًا من هذا التلكؤ والعجز في إكمال الأبيات فيطلب منه أن يثبِّت بعده في قصيدته ما سيتلوه عليه، وهكذا عرفَ ابنُ شُهيد صاحبه الجنيِّ مُلهمَ شعره، وهو زُهَير بن نُمَير، وعلَّمه أبياتٍ إذا ألقاهن جاءه زُهير، وهكذا بدأت اللقاءات بين الاثنين. 

وفي يوم يطلبُ ابنُ شُهيد من صاحبه الجني أن يأخذه إلى أرض الجن ليلتقي بأصحاب الشعراء والكتَّاب من الجن، فكان له ما أراد وسافر في رحلة عجيبة مع زُهير على متن فرس الأخير إلى أرض الجن. 

لا يتضح من النص إن كان لابن شُهيد رحلة واحدة إلى أرض الجن أو أنه قام بأكثر من رحلة رفقة صاحبه الجني، لكن المؤكد أنَّه التقى بأصحاب الشعراء والكتَّاب كُلًا على حدة، ثم التقى بنقَّاد الجن، وفي الأخير حيوانات الجن. ولهذا فإن النصَّ قُسِّم من المحقق البستاني إلى أربعة فصول لكنَّه في الأصل كما يبدو ظاهريًا نصٌ واحدٌ غير مُجزِّء. وابتدأ اللقاء من الأقدم إلى الأحدث ومن الأهم إلى من دون ذلك، واقتصرت اللقاءات على شخصيات مُحددة إذ التقى ابن شُهيد بأصحاب الشعراء من الجن الذين ذكرهم بالاسم لزُهير بن نُمير. فكان أول من التقى به هو صاحب امرئ القيس، عُتيبة بن نوفل، ثم بشيطان طُرفة، عنتر بن العجلان، ثم شيطان قيس بن الخطيم، أبو الخطّار، هؤلاء الثلاثة هم الوحيدون من شعراء ما قبل الإسلام، ثم ينتقل إلى المتقدمين أولهم صاحب أبي تمام، عتَّاب بن حَبناء، ثم صاحب البحتري، أبو الطبع، ثم صاحب أبي نواس، حُسين الدنان، ثم صاحب أبي الطيب، حارثة بن المُغلِّس. وبهؤلاء ينتهي الشعراء وينتقل بعدها إلى توابع الكتَّاب من الجن، فهم أيضًا مُلهمون ونثرهم لأدباء الجن فيه يدٌّ ومدٌّ فيلتقي بصاحب الجاحظ، وهو عُتبة بن أرقم، وصاحب عبد الرحمن الكاتب، أبو هُبيرة، ثم التقى بصاحب بديع الزمان، زُبدة الحِقب. ولم يرد أن يلتقي ابن شُهيد بسواهم وأجازوه كما أجازه السابقون في الشعر. وهؤلاء الذين التقى بهم ابنُ شُهيد من أصحاب الشعراء والكتَّاب السابقين، والتقى بصاحب أديب معاصر له وهو أنف الناقة، التابع الخاص بأبي القاسم الإفليلي (يصفه أبو حيّان بأنه بذَّ أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان العربي، والضبط لغريب اللغة، وكان راكبًا رأسه في الخطإ البيّن يُجادل عليه، ولا يصرفه صارف عنه).    

ويُؤكد لنا جليًا من لقاء ابنُ شُهيد بصاحب الإفليلي، أنف الناقة، السبب الكامن وراء تأليف ابن شُهيد لرحلته الخيالية هذه، ففي لقاءاته السابقة مع أصحاب الشعراء، ويعتمد على أسلوب واحد تقريبًا يتبعه مع الجميع، يطلب من التوابع أن يقرؤنه من شعر أصحابهم الإنس ثم يقرأ بعدها عليهم من شعره فيجيزونه ويمدحونه، وكذا الحال مع تابعي الجاحظ وعبد الحميد، وكان في حضرة أولئك متواضعًا تواضع المريد بين يدي أساتيذه لكن مع أنف الناقة صاحب معاصره الإفليلي جريء وقح، صلف عنيد، يُكبتُ الجني ولا يتيح له كلاما ولا يسمح به بحوار فتراه يُعجزه بطلب نظم قصائد مثل ما يُلقيها ابن شُهيد وخُطبًا مثل التي يكتبها، ولا نسمع لأنف الناقة سجالا أدبيًا مع ابنُ شُهيد حتى إن يستدرُّ جرّاء هذه المعاملة تعاطف بقية التوابع إلا إن ابن شُهيد يبقى متزمتًا في تعامله معه، وفي هذا إشارة واضحة إلى دنو قدر الإفليلي مقابلةً مع ابن شُهيد، كما أراد من هذا التعامل مع صاحبه الجني أن يثبت غلبة الإنسي على الجني فكيف بغلبة الجني على الجني، وهنا ابنُ شُهيد ليس بازًا فائقا عالي الكعب على الإفليلي بل على أستاذه ومُلهمه الجني، أنف الناقة، وهنا يرد لنفسه بعض الاعتبار من السوء الذي ناله بسبب عداوة الإفليلي مع أنه صاحبه الذي يودَّه. أما معاصره الآخَر وآخِر من التقاهم من التوابع هو أبو الآداب صاحب أبي إسحاق بن حُمام، جار ابن شُهيد، لكنه هنا ودود معه لطيف الحديث ويطلب منه أن يكون رفيق بأخيه ويخفف من حدة لسانه عليه. ثم يلتقي بعد ذلك بنقَّاد الجن ومُعلمي الشعر، ثم في الأخير بحيوان الجن واقتصر لقاؤه على البغال والإوزَّة الأديبة. 

بهذا تنتهي رسالة التوابع والزوابع ولا يُدرى إن كان ثمة تكملة لها، وهو المرجَّح، أو لم لا يُوجد لكنها مع ذلك كاملة الأركان واضحة المغزى تامة البُنية وإن كانت فنيًا ضعيفة لا شيء فيها يستحق الالتفات إلا أنها تبقى بفكرتها جديرة بالاعتبار والاهتمام، فهي تقدم لنا نصًّا أدبيًا عربيًا عن رحلة عجيبة يُثبت بها أسطورة الجن المُلهمين للشعراء وينتصر لنفسه من معاصريه بطريقة فريدة.   

 


الجمعة، 23 يوليو 2021

أصل قصة أنشودة الضباب (النيبيلونجليد)



تحدثتُ في قراءتي لملحمة أنشودة الضباب عن تأثير الميثولوجيا الإسكندنافية في هذه الملحمة لكن غابت عن ذهني وقتها القصة التي ذكرها سنوري ستورلوسون في كتابه The prose Edda، -كنت قد قرأتها قبل ذلك- عن قصة سيغوردر وغدرون، وأحداثها هي الخطوط الرئيسة للقصة التي اعتمد عليها الشاعر في نظم ملحمته. إن تشابه القصة التي يرويها سنوري وملحمة أنشودة الضباب يشير إلى المصدر المشترك الذي استقى منه مؤلف الملحمة وسنوري قصتيهما. سبق شاعرُ الملحمة سنوري بنحوِ عقدين من الزمن، ومما لا شك فيه أن سنوري كتبَ عن أساطير الإسكندنافيين وأخبارهم السحيقة، وهذا يعني أن أصل قصة سنوري هو ما اعتمد عليه شاعر الملحمة وأعاد صياغتها وأدخل عليها التفاصيل الخاصة بعالم الفرسان والملوك وأجرى عليها التعديلات الملائمة لعصره وغيَّر النهاية في حين تبقى الكثير من الأحداث الأخرى واحدة تقريبًا. كما وأن قصة سنوري تبدأ بحقبة زمنية تسبق بقليل الأحداث التي تبتدئ بها ملحمة أنشودة الضباب لا سيما عن قصة التنين التي يقتله سيغفريد، ولا يعلم قارئ الملحمة الكثير عنه، وتكشف قصة سنوري عن خبر التنين فافنر، وتنتهي قصته بأحداث لاحقة لزمن نهاية الملحمة. 

نلاحظ التماثل الكبير بين القصتيْن سواء من تسلسل الأحداث وتشابه الأسماء وتقارب الحبكة وحتى الطبيعة الذاتية والتركيب النفسي لشخصيات الملحمة كشجاعة سيغفريد وسيغوردر، وانتقامية كريمهيلد وغدرون، وخيانة غونتي وهاجن وغونار وهوغني، إلى الجو العام في القصتين وأصالة نسب الشخصيات وقَدْرها الملكيّ والنهاية التي تُسدل ستارها على الجميع. وبالعودة إلى قراءتي للملحمة وملخص الملحمة وقراءة القصة التي ترجمتها في الأسفل سيقف القارئ على كل ما أشرت إليه من التشابهات وما لم أشر إليه. 

*

يقص سنوري ستورلوسون في القسم الثاني من كتابه The prose Edda، في الفقرات 39-41 عن كنز فافنر (التنين الذي يقتله سيغفريد في الملحمة) وعن الشجاع سيغوردر (سيغفريد في الملحمة) وبرينهيلدر (برونهيلد) وغودرون (كريمهيلد) وغونار (غونتر) وأخويه هوغني وغودني والأخ غير الشقيق غوتهورمر. 

هنا ترجمة قصة سنوري من كتاب نثر إيدا The prose Edda بترجمة آرثر جيلكريست برودور الصادرة بالإنجليزية عام 1916، وترجمتي وإن كانت موجزة بعض الشيء إلا أنها احتفظت بقوام القصة كاملًا ولم أحذف منها أي سطر مهم بل حاولت أن أترجم كل أحداث القصة صغيرها وكبيرها وذكرت جميع الشخصيات التي وردت دون الإخلال بأي جزء قد يفقد القصة شيئًا من بُنيتها.


فقرة 39: 

يجيب الإله براغي عن سؤال آيغير حول سبب تسمية الذهب باسم "فداءُ أو ثمن قُضاعة (ثعلب الماء). 

كان أودين ولوكي وهونير، الآلهة الآيسر، في رحلة في ربوع الأرض حين رأوا قُضاعة في أحد الأنهار يحاول اصطياد سمكة سلمون، وسرعان ما هجم عليهما لوكي وقتلهما بضربة واحدة ثم أخذ الثلاثةُ الصيد معهم وأكملوا رحلتهم حتى وصلوا إلى مسكن قريب في الغابة وطلبوا من صاحبه، واسمه هريدمار، أن يباتوا عنده ليلة واحدة، لكنه حين رأى القُضاعة معهم استصرخ ابنيه، فافنر وريغن، قائلًا لقد قُتل أخيكما القُضاعة. ثم ركض نحو الآيسر وأمسك بهم وطلب منهم الفداء مقابل ما ارتبكوه من جريمة بحق ابنه، أقسم له الآيسر بأغلظ الأيمان أنهم سيمنحونه الجزاء الوافي والثروة الباهضة مقابل ما جنوه وأبرموا فيما بينهم عهدًا. طبخَ هريدمار بعدها القضاعة ووضع جلده على الأرض وطلب أن يُغطى الجلد كله بالذهب جزاءً على ما اقترفوه، ولم يكن بيد أودين حلًا سوى أن يفي بالعهد فأرسل لوكي إلى أرض الجن الأسود للحصول على الذهب. رأى لوكي عندما وصل إلى هناك القزمَ أندفاري وهو يصطاد السمك، فأمسك به وطلب منه الذهب مقابل إطلاق سراحه، منحه القزم على كره الذهب لكنه احتفظ بخاتم صغير قائلًا إن هذا الخاتم بإمكانه أن يُضاعف ثروته ويرغب بالاحتفاظ به فرفض لوكي منحه الخاتم وسلبه منه إلا أن القزم أندفاري ألقى على الخاتم لعنةً تدمِّر كل من يحوزه. أجابه لوكي بأنَّ هذا يبدو عادلًا كفاية ثم تركه وعاد إلى أودين وهريدمار، ولما رأى أودين الذهب أعجبه الخاتم فاستلَّه بُغية الاحتفاظ به، ودفع الذهب إلى هريدمار فوضعه على جلد القُضاعة كما نصَّ العهد بينهما، لكن الذهب لم يُغطِ جلد القُضاعة كله إذ بقي موضع صغير طالبَ هريدمار أن يُغطى كذلك وإلا فإنَّ العهد بينهم ملغيٌّ فاضطر أودين أن يقدم الخاتم على مضض ويفي بالعهد كاملًا. رحل بعدها الآيسر وتركوا هريدمار وابنيه مع الذهب. ولهذا السبب يُسمى الذهب بـ فداء القُضاعة أو الثمن الذي دفعه الآيسر مُجبرين، أو معدن الخصومة. 


فقرة 40: 

أخذَ هريدمار الذهبَ فداءً لدم ابنه، لكن فافنر وريغن طالبًا بقسم من الذهب لنفسيهما. رفض والدهما منحهما قطعة واحدةً فتآمرا على قتله وحيازة الذهب وحدهما، وهذا ما حصل إذ قتلاه بعدها وعندما طلب ريغن بحصته من الذهب رفض فافنر منحه نصفَ الذهب ومتحججًا بأنه قتلَ والدهما لأجل مصالحه وحده وأمرَ أخاه أن يرحل وإلا سيواجه مصير هريدمار. أخذ بعدها فافنر خوذة هريدمار وثبَّتها على رأسه، وأخذ السيف المُسمَّى هروتي. وأخذ ريغن السيف المُسمَّى ريفيل، وفرَّ هاربًا. ذهب فافنر إلى بريّة غانيتا حيث اتَّخذ له عرينًا وحوَّل نفسه إلى "ثعبان" واستلقى فوق الذهب. 

ذهب ريغن بعدها إلى الملك هجالبريكر في ثجورد، وأصبح حدَّاده، ثم التجأ إلى سيغوردر، ابن سيغموندر وهجورديز. امتاز سيغوردر بالشجاعة والإقدام ولم يكن له مثيل بين الملوك والفرسان والشجعان. أخبره ريغن بمكان فافنر والذهبُ وأزَّه على البحث عن الذهب، وصنع له السيف غرامر الذي كان حادًا جدًا. ذهب سيغوردر وريغن إلى برية غانيتا حيث فافنر مع الذهب فقاتله سيغوردر وقتله ووضع يديه على الذهب، إلا أنَّ ريغن عاد أدراجه إلى ثجودر مدَّعيًا أنَّ سيغوردر قتل أخاه وطالبَ بأن يكون ثمة التسوية أن يشوي سيغوردر قلبَ فافنر. وعندما كان سيغوردر يشوي قلبَ فافنر ضغط بإصبعه القلب ليعرفَ مدى نضجه فانبثق على إصبع دمٌ من القلب فكوى إصبعه فوضعه داخل فمه فلما لمس الدمُ فمَه امتلكَ سيغوردر قدرة فهم كلام الطيور، وسمع ما كانت تقوله الطيور فوق الأشجار بأن ريغن ينوي خيانة سيغوردر والانتقام لأخيه. انطلق سيغوردر بعدما سمع هذا الكلام إلى ريغن وبادر بقتله، ثم امتطى فرسه، غراني، وأقفل راجعًا إلى برية غانيتا حيث الذهب الذي ملأ به حقائب سرج فرسه وارتحل بعيدًا. 

  

 فقرة 41: 

انطلقَ سيغوردر بعدها على متن فرسه غراني حتى وصل مسكنًا في جبل كانت بداخله امرأة بخوذة ودرعٍ نائمة. استلَّ سيغوردر سيفه وانتزع به درعها لتستيقظَ إثرها ويمنحها اسم هيلدر، لذا فهي تُدعى برينهيلدر (حاملة الدرع)، وهي من الفالكيريات (رُسل أودين). رحلَ سيغوردر بعدها حتى وصل إلى حضرة ملك يُدعى غجوكي، وله زوجة اسمها غريمهيلدر، وله من الذرية غونار وهوغني وغدرون وغودني، وغوتهورمر ربيب غجوكي. مكث سيغوردر هناك مدة طويلة وطلب بعدها يد غدرون للزواج، ثم أقسمَ مع غونار وهاغوني على أخوة الدم. رحلَ بعدها سيغوردر وأبناء غجوكي إلى الملك أتلي من أجل طلب يد أخته برينهيلدر لغونار. وكانت برينهيلدر قد أقسمت ألا تتزوج إلا من يعبر بفرسه وسط النيران الملتهبة حول قاعة مسكنها في جبل هيندا-فيل. توجَّه سيغوردر والبقية إلى الجبل من أجل هذا الاختبار الذي يجب على غونار أن يجتازه لكنَّ فرسه، واسمه غوتي، جبن من القفز إلى النيران، لذا فقد تبادل غونار وسيغوردر أشكالهما (بالسحر) لأن فرس سيغوردر، غراني، لا يهاب النيران. امتطى سيغوردر فرسه ونطَّ إلى النيران وتمَّت بهذه الحيلة زيجة برينهيلدر وغونار. وعندما نام سيغوردر (كان لا يزال بهئية غونار) في ليلتها مع برينهيلدر وضع سيفه غرامر بينهما وحين استيقظ في الصباح وارتدى ملابسه منحها للذكرى ثوبَ كتّان والخاتم الذي أخذه لوكي من القزم أندفاري وأخذ منها خاتمًا. ثم عاد سيغوردر إلى رفاقه واسترَّد مع غونار شكله وعادوا إلى الوطن رفقة برينهيلدر. 

أنجب سيغوردر وغدرون ولدا وبنتا هما سيغموندر وسفانهيلدر. 

مرَّت الأيام بسلام حتى وقعت حادثة علَّمت بداية المأساة حين كانت غدرون وبرينهيلدر ذاهبتين إلى النهر ليغسلان شعرهما، وبعد أن وصلتا إلى النهر خرجت برينهيلدر إلى ضفة النهر ورفضت أن تغسل شعرها في الماء الذي غسلت فيه غدرون شعرها لأنَّ زوجها هو أشجع الرجال. لحقت بها غدرون قائلةً بأنَّ لها الحق في غسل شعرها في أرفع الجداول لأنها تملك زوجًا لا شبيه له ولا نظير، فلا غونار ولا غيره من الرجال في العالم عِدْلٌ لزوجها الذي قتل فافنر وريغن واستأثر بإرث كليهما. قالت لها برينهيلدر "إنَّ المسألة ليست في هذا بل أعظمُ حين خبَّب غونار بفرسه عبر ألسنة اللهب ولم يجرؤ سيغوردر على ذلك". ضحكت غدرون على هذا الجواب وقالت "أتظنين أنَّ غونار من انطلق عبر النار؟ وأظنه هو مَنْ ذهب معك إلى فراش العرس ومَنْ أعطاني هذا الخاتم الذهبي، والخاتم الذهبي في يدك الرقيقة، واستملتِ منه ثوب الكَّتان المسمَّى "غُلَّة أندفاري"، لكني موقنةٌ بأنَّ ليس غونار من حصل على الخاتم من بريّة غانيتا". لم تحرَ برينهيلدر بعد هذا جوابًا والتزمت الصمت، وعادت إلى سكنها.  

حثَّت برينهيلدر غونار وهوغني على قتل سيغوردر لكن لأنهما أقسما على أخوة الدم معه فقد طلبا من أخيهما غير الشقيق، غوتهورمر، أن يقتله. وهذا ما حصل حين أغمدَ غوتهورمر سيفَه في سيغوردر أثناء نومه واستيقظ سيغوردر حين أحسَّ بالجرح ورمى سيفه على قاتله وطعنه في خاصرته وقتله. ثم هوى سيغوردر ميتًا مع ابنه سيغموندر ذي الشتاءات الثلاثة، الذي قتلوه أيضًا. طعنت برينهيلدر نفسها بالسيف بعدما عرفت الخبر وأُحرقَ جثمانها مع سيغوردر، واستولى غونار وهوغني على إرث فافنر وغُلَّة أندفاري، وحكما البلاد بعدها. 

تزوَّج بعد ذلك الملك أتلي، أخو برينهيلدر، غدرون وأنجبَ منها أطفالًا. دعا بعد مرور سنوات الملك أتلي غونار وهوغني القدومَ إلى مملكته اللذين لبيا دعوته وأتياه. لكنهما خبَّأا كنز فافنر في نهر الراين قبل المغادرة. امتلأ الملك أتلي غيظًا منهما وقاتلهما بعد أن وصلا إلى مملكته وأُلقي القبض عليهما. طلبَ أتلي انتزاع قلب هوغني حيًّا، وألقى غونار مربوطَ اليدين في وكر ثعابين لكن جُلبت قيثارة سرًا إلى غونار فتمكَّن من العزف عليها بقدميه وهوت جميع الثعابين نائمةً خلا واحدةً عضَّته ومات على إثرها. وسُمي غونار وهوغني بعدها بـ النيفلونغ. 

قتلت غدرون بعدها ابنيها من أتلي، وصنعت من جمجتيهما أباريق شراب، وصبَّت فيهما شراب البِتْع (الميد) ممزوجًا بدم ولديْها وشوت قلبيهما وقدمتهما إلى الملك أتلي في حفل جنازة النيفلونغ، ثم أخبرت الملكَ بكلمات متناثرة عن فعلها إلا أنَّه هوى ورفاقه نائمين من قوّة الشراب، وعادت إليه مع ابن هوغني وقتلا الملك وهو نائم، ثم أحرقت القاعة بمن فيها. 

(إلى هنا تنتهي قصة ملحمة أنشودة الضباب لكن بنهاية مختلفة، إلا إن القصة هنا تحظى بتكملة مختلفة).

خرجت بعدها إلى الشاطئ وألقت نفسها في الماء بُغية الموت إلا إنَّ الحظَ لم يحالفها وحملها الموج إلى أرض الملك جونكار الذي سرعان ما تزوَّجها بعد أن وقع بصره عليها وأنجب منها ثلاثة أبناء هم سورلي وهامدير وإربر، وكانوا ذوي شعر أسود مثل غونار وهوغني وبقية النيفلونغ. 

كبرت في هذه الأثناء سفانهيلدر، ابنة سيغوردر، وبلغت من الجمال مبلغًا لم تضاهيه أخرى من النساء، وذاع صيتُ حُسنها حتى طرق مسامع الملك جورمونريكر العظيم الذي أراد زواجها والاستئثار بها لنفسه، فأرسل ابنه راندفير لخطبتها والإتيان بها عروسًا لأبيه. رحل راندفير إلى بلاط الملك جونكار وخطب سفانهيلدر، فأُعطيتْ إلى راندفير ليأخذها إلى الملك جورمونركير. لكن الإيرل بيكي كان له رأي آخر فاقترح تزويج سفانهيلدر لراندفير لأن الاثنين في ميعة الصبا في حين جورمونركير قد هدَّه الزمان وطعنه العمرُ وشاخ. وعندما علم جورمونركير العظيم بهذا الخبر أمرَ بالقبض على ابنه وشنقه، وحين علم الابن بذلك نتف ريش طائره البازِّ وطلبَ إرساله إلى أبيه قبل أن يُقتل. عندما رأى جورمونركير الطائر ضعيفًا منتوف الريش لا يقوى الطيران علمَ أنَّ هذا الطائر هو مملكته التي شارفت على النهاية إذ كان عجوزًا وبلا عقب. ثم خرج الملكُ إلى الغابة في جمع من فرسانه للصيد والطرد فرأى سفانهيلدر قاعدة قرب ضفة تغسل شعرها فانطلقوا إليها وقتلوها تحت حوافر خيولهم. 

تأججت نار الثأر في صدر غدرون حين علمت بمقتل ابنتها وأرسلت أبناءها الثلاثة لينتقموا من الملك وزوَّدتهم بشكَّة الحرب من دروع وخوذ ذات معدن لا تخرقه السيوف ولا تخدشه الرماح والفؤوس. ثم أرشدتهم إلى كيفية قتل الملك أثناء نومه فطلبت من سورلي وهامدير قطع يديه ورجليه ومن إربر ضرب عنقه. وفي طريقهم إلى الملك جورمونركير لتنفيذ ما أوصتهم به أمهم سأل سورلي وهامدير أخيهما ما الذي يتوقعان منه أن يفعل إذا اجتمعا بالملك فأجابهما ما تقدمه اليدُ للقدم، لكنهما أجابا أن القدم لا تنال مساعدةً أبدًا من اليد. أوغر الجوابُ في صدريهما حقدًا لأنه كان أصغرهم والعزيز على قلب أمه فتآمرا على قتله فقتلاه قبل الوصول إلى حضرة الملك جورمونركير. وحينما كانا يحثَّان الخطى إلى وجهتهما انزلقت قدم سورلي وسقطَ لكنه استند على يده، فقال "الآن حصحص الجوابُ ونالت القدمُ مساعدة اليدِ، لمن الخير لنا لو كان إربر حيًّا‘. وجد الأخوان الملك نائما بعد أن وصلوا إليه وهمَّا بقتله كما أوصتهما أمهما فقطعها يديه ورجليه لكنَّ إربر لم يكن معهما ليضرب عنقه فنادى الملك الجريح على أتباعه فطوَّقا الأخوين وقتلوهما وبمقتلهما انقطعت سلالة الملك غجوكي، جدهما من أمهما.        


مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...