الاثنين، 8 أكتوبر 2018

مفاهيم روائية 3



الميتا سردية:  

ما ميّز رواية ما بعد الحداثة هو العمل على جعل القارئ يعلم أن ما يقرأه هو عمل تخييلي بحت، وليس هناك أي محاولة لإقناعه بواقعية العمل، العمل الذي بين يديك هو تخيّل فقط،  حيث أصبح للسارد صوته الواضح الذي يسمعه القارئ، دون أي محاولة لإخفائه أو تماهيه في السرد. كما في الميتافكشن ما ما وراء القص Metafiction (هو شكل كتابة أدبية تؤكد بُنيته الخاصة بطريقة تجعل القارئ على علم تام بأنه يقرأ أو يشاهد عملا خياليا. والميتافكشن هو وعي الذاتي للغة والأدب من خلال الحكي القصصي والجذب المباشر أو غير المباشر لانتباه القارئ تجاه قضية أو فكرة معينة، والتي تستخدم في مواضيع ساخرة أو تهكمية أو أداة لتقويض الأسس المتفق عليها في الرواية، واستعراض العلاقة بين  الأدب والحياة والجمال والفن) والميتا سردية* منحتنا ساردين يفكرون في كيفية إخبارنا بحكاياتهم وقد يكون هؤلاء الساردون هم الكُتّاب أنفسهم.

هذه الصفة الفنية السردية الجديدة في إعطاء الكاتب أو السارد حيزا ودورًا ملموسا في الرواية، من مميزات روايات ما بعد الحداثة التي جاءت بها الحقبة الجديدة من الرواية.
ويُبرز جيسي ماتز الفرق المفصلي بين الرواية الحديثة ورواية ما بعد الحداثة "هو أن الرواية الحديثة عملت كنافذة شفافة نطل منها على الوعي، أما الروائي ما بعد الحداثي اهتم بتوجيه بؤرته صوب المداخلات السردية نفسها".

وتعتبر الميتا سردية من السمات المهمة في رواية ما بعد الحداثة إضافة إلى التسنين المزدوج والسخرية التناصية.


ـــــــــــــ
*الميتاسردية "نص واعٍ يخاطب نفسه".(1) أو يمكن تعريفها أيضا بأنها نوع من الكتابة السردية، ذاتي الانعكاس، يتمثل في وجود تخييل فوق التخييل الأصلي، وتعليق النص على نفسه وطريقة سرده وهويته، أي إن النص يمتلك وعيا ذاتيا ويكسر الحاجز بين الواقع والخيال. يُنسب هذا المصطلح إلى الروائي والناقد الإنجليزي وليم غاس، حيث استخدمه في دراسة نقدية له ظهرت عام 1970. (2)
















ــــــــــــــ

  1. آليات الكتابة السردية - إمبرتو إيكو.
  2. تطور الرواية الحديثة - جيسي ماتز.

الإكراهات:

بعد أن تحضر الفكرة وتختمر في ذهن الكاتب، فإن المرحلة التي تليها تتمثل في إكراهات يفرضها الكاتب على نفسه، فالكاتب يُحيط عمله بحدود يكتب في داخلها، ويُلزم نفسه بها، حتى يخرج عمله رصينا تاما خاليا من العيوب والأخطاء بأقصى الإمكانيات الممكنة، "يقول إيكو(1): من أجل أن تتقدم القصة، على الكاتب أن يقيد نفسه بإكراهات. وإن الإكراهات أساسية في كل عمل فني. إن الرسام الذي يقرر استعمال الزيت في عوض اللون المائي، والثوب عوض الحائط، يختار في واقع الأمر إكراها، والموسيقي الذي يختار إيقاعا أوليا، والشاعر الذي يغلق نفسه داخل قافية أو بحر شعري ما، يختار أيضا إكراها. ولا تعتقدوا أن الطلائعيين من الرسامين والموسيقيين والشعراء- الذي يتظاهرون بتحاشي هذه الإكراهات- لا يبلورون إكراهات أخرى، إنهم يقومون بذلك، ولكنهم لا يودون الاعتراف بذلك.".

ومن أمثال الإكراهات التي يلزم الكاتب نفسه بها:

1- إكراهات زمانية: إن اختار الكاتب عصرا ما أو زمنا معينا أو سنة معينة تجري فيها  أحداث روايته، فإنه يرغم نفسه على الالتزام بهذا العصر والزمن، وأحداثه وعادات المجتمع وقتئذ، مما يجعل العمل أكثر صعوبة ويحتاج إلى جهود دراسية وبحثية لغوية واجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية وأدبية وفنية. يقول إيكو(2): ومن بين الإكراهات التي فرضتها رواية بندول فوكو هي أن الشخصيات عاشت سنة 1968، وبما أن بيلبو كان يرقن ملفاته على الحاسوب -وهذا لا قيمة له في القصة، لأنه يوحي في جزء منه بطبيعته الهشة والتأليفية- فإن الأحداث الأخيرة يجب أن تدور بين سنتي  1983و1984، وليس قبل هذا التاريخ. السبب في ذلك بسيط: لقد دخلت الحواسيب الشخصية الأولى السوق الإيطالية سنة 1983 (أو عام 1982).
وهنا نرى أن إيكو فرض على نفسه سنة معينة تدور فيها أحداث روايته بندول فوكو، لذلك فهو مضطر لعدة تغييرات فرضتها عليه الإكراهات الروائية لمعالجة هذه المشكلة والتي وجد لها حلا خاصا بالطقوس السحرية كما اختار هذا الحل في روايته.

2- إكراهات سردية: وقد تبدو هذه الإكراهات من أكثر الإكراهات صعوبة والتي قد يقع الروائيون المبتدئون بأخطاء عند عدم الالتزام بالإكراهات التي يفرضونها على أنفسهم، وتتمثل هذه الإكراهات باختيار شخصية وجهة النظر، فإن كان السارد يتحدث بضمير الأنا (ضمير الشخص الأول)، فهو في هذه الحالة، سيكون مرغما على فقدان بعض المميزات التي ينالها السارد العليم كلي المعرفة، حيث يتم سرد الرواية وأحداثها من قبل ذاته فقط، فهو لا يمكن أن يخبر القرّاء ما الذي تفكر به الشخصية ب أو ما الذي فعلته بغيابه الشخصية ج بعد أن ذهبت إلى منزلها، حيث يجد نفسه محاصرا بوعيه وذاتيته، والخطأ الذي قد يرتكبه السارد بضمير الأنا هو إخبارنا أحداثا وقعت لكنها لم تكن في إطار معرفته أو حضوره، والذي سنبادر بالسؤال كيف عرف هذا؟ قد يلجأ بعض الروائيين لاستخدام تقنيات سردية مختلفة ومنوعة من أجل التغطية على أي عيوب قد تحصل أثناء السرد كتعدد الساردين أو تنوع أصناف السرد.
***
تتنوع الإكراهات الروائية حسبما يتعامل معه الراوي في عمله الأدبي، وتختلف من رواية إلى أخرى ومن راوٍ إلى آخر، لكن هذه الإكراهات رغم تنوعها وتعددها حتى في العمل الواحد، فإنها تبيّن مدى حذاقة ورصانة العمل في حالة إجادة الراوي في إتقان عمله على المستويات كافة، وكذلك فهي تبين مدى قلة خبرة الراوي، وعدم اهتمامه في عمله إن قام بوضع إكراهات لعمله لكنه يقوم بتجاوزها دون دراية أو بدراية!






ـــــــــــ
  1. اعترافات روائي ناشئ - أمبرتو إيكو ص. 39.
  2. المصدر السابق. ص. 40

السخرية التناصية:
وهي من المميزات الروائية الما بعد حداثية، حيث يقوم الكاتب أثناء السرد بالإحالة إلى أحداث وأقوال وشخصيات ذات طابع عالمي معروف، لكن سرعة ومستوى الإدراك لهذه الحالات يتوقف على مدى ثقافة وإطلاع وسرعة بديهة وذكاء القارئ.
يقول إيكو إن حالات السخرية التناصية مختلفة وهو ما يميز الأشكال الأدبية التي وإن كانت ذات طابع عالمي،  فإنها تتخذ أيضا طابعا شعبيا: يمكن أن يقرأ النص قراءة ساذجة، دون استيعاب الإحالات التناصية، أو يقرأ مع الوعي بهذه الإحالات، أو في الأقل يجب البحث عنها. (1)
السخرية التناصية، تؤسس لإمكانية قراءة مزدوجة، لا تدعو جميع القرّاء إلى الوليمة ذاتها، إنها تنتقي، وتفضل القراء الحاذقين من الناحية التناصية دون أن تقصي القارئ الأقل تسلحا، فإذا صاغ مؤلفٌ شخصية تقول:  A nous deux, Paris، فإن القارئ الساذج لا يتعرف على إحالة بلزاك، ومع ذلك يمكن أن ينحاز إلى شخصية منذورة للتحدي والبطولة. أما القارئ الفطن فسيلتقط المرجعية، وسيستمتع بالسخرية- وليس الإشارة التي يقوم بها تجاهه المؤلف فقط، ولكن أيضا آثار المهانة أو تحولات الدلالة (عندما يدرج الاستشهاد ضمن سياق مختلف عن الأصل)، إن الأمر يتعلق بالإحالة العامة على حوار متواصل بين النصوص. (2إن السخرية التناصية لا تمدنا بمستويين للقراءة فقط، بل لها علاقة بقدرته على أن يضعنا أمام أربعة معاني، أي المستوى الحرفي والمستوى الأخلاقي، والمستوى المجازي والمستوي الباطني (التأويلي)(3)
إن السخرية التناصية لا تكمن في قول نقيض الحقيقي، بل قول نقيض ما يعتقد المتكلم إنه حقيقي، فمن السخرية تعريف شخص غبي بأنه ذكي، ولكن فقط إذا كان المتلقي يعرف أن هذا شخص بليد، أما إذا كان يجهل ذلك، فإن السخرية لن تتحقق، ولا نقوم بسوى تقديم خبر زائف، وبناء عليه، فإن السخرية تصبح مجرد كذب. عندما لا يكون المتلقي غير واعٍ بذلك. (4)
ــــــ
  1. آليات الكتابة السردية - أمبرتو إيكو ص. 136
  2. المصدر السابق. ص. 137
  3. المصدر السابق. ص. 137
  4. المصدر السابق. ص. 155
التسنين المزدوج:

ويعني أن الكاتب الروائي أثناء كتابته الرواية فهو يخاطب فئتين من القرّاء القارئ المثقف والقارئ العادي، حيث عملت الأدب ما بعد الحداثي إلى إزالة الفوارق الطبقية الاجتماعية وألغت الأدب الموجه إلى نخبة معينة دون غيرها وعملت على إنكار التفريق بين ثقافتين مرموقة وواطئة، من خلال رفض أي تفريق جمالي بين الثقافتين كما يشير جيسي ماتز في كتاب تطور الرواية الحديثة، لكنها بذات الوقت احتفظت ببعض السمات التي لا يستطيع القراء جميعا إدراكها فيقول إيكو: "إن البناء أو العمل الفني الما بعد-حداثي يتوجه في الآن نفسه إلى أقلية نخبوية باستعماله سننا "راقيا" وإلى الجمهور العريض باستعماله سننا "شعبية". ويقول: أعترف أن المؤلف، وهو يستعمل تقنية التسنين المزدوج، إنما يؤسس لنوع من التواطئ الصامت بين القارئ المثقف والقارئ العادي الذي لم يلتقط هذا التلميح الثقافي، فإنه سيشعر أن هناك شيئا ما قد أفلت من بين يديه. ولكن لا أعتقد أن هدف الأدب هو التسلية والمواساة فقط. إن الأدب يبتغي أيضا التحريض على قراءة النص مرتين وأحيانا أخرى الدفع إلى قراءته مرات عديدة، ذلك أن القارئ يريد أن يفهمه فهما جيدا. لهذا أعتقد أن التسنين المزدوج ليس عادة أرستقراطية، بل هو، عند المؤلف، طريقة للتعبير عن احترامه لذكاء القارئ ونيته السليمة. يشبه التسنين المزدوج في اللغة العربية أسلوب التورية، حيث هناك معنى ظاهري يُفهم لأول وهلة وهناك معنى باطني هو المقصود.

***

تفرق السخرية التناصية عن التسنين المزدوج بأن السخرية التناصية تستخدم قول مؤلف آخر أو شخصية معروفة وإدراجها ضمن نص آخر لأغراض تهكمية أو ساخرة أو إحالات ذات دلالة معرفية أو إخبارية، بما يخدم النص الجديد، أما التسنين المزدوج فهو أن يكون النص الواحد ذو مستويين من المخاطبين في الأدنى، مستوى يُفهم من أول قراءة ومستوى آخر يحتاج إلى استذهان وقراءة النص بتأمل وتأنٍ من أجل الوصول إلى المعنى الذي يوده المؤلف، ولكن ما تتشابه به السخرية التناصية والتسنين المزدوج أنهما بحاجة إلى قارئ حذق وفطن ليستمتع بالقراءة كما أراد المؤلف، بينما القارئ الساذج يفوته الكثير ويبقى على سطح النص دون الغوص إلى أعماقه وجني لآلئه.
المراجع:

1- علم السرد - يان مانفريد. ترجمة أماني أبو رحمة.
2- تطور الرواية الحديثة - جيسي ماتز. ترجمة لطفية الدليمي.
3- اعترافات روائي ناشئ - أمبرتو إيكو. ترجمة سعيد بنكراد.
4- آليات الكتابة السردية - أمبرتو إيكو. ترجمة سعيد بنكراد.
5- تقنيات الكتابة الروائية - نانسي كريس. ترجمة زينة جابر إدريس
6- كتابة الرواية من الحبكة حتى النشر - لورانس بلوك. ترجمة د. صبري محمد حسن
7- صنعة الرواية - بيرسي لوبوك. د. عبد الستار جواد
8- الفن الروائي - ديفد لودج. ترجمة ماهر البطوطي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...