السبت، 12 سبتمبر 2020

المهابهارتا

 

(ملحمة الهند الكبرى)


تُعدُّ المهابهارتا عِماد الأدب الهندي رفقة ملحمة الرامايانا اللتان توازيان الإلياذة في الأدب الإغريقي رفقة الأوديسة لشاعرهما هوميروس، وتفضلُ ملحمة المهابهارتها الإلياذة في كونها منبع لتعاليم الديانة الهندوسية بل وإنَّ السِفر السادس عشر منها (الباجافاد جيتا)- وهو محاورة بين كريشنا (الذي تجسَّد فيه إله الكون) وأرجونا أحد أبطال الملحمة- هو الكتاب الهندوسي المقدس. فبعد أن كان محرَّما على الهندوسي العادي أن يمس كتاب الرجيفيدا (النص الهندوسي المقدَّس)، الذي كان مقصورًا على الكهنة فقط، وبدأ منذ حينها البحث عن كتابٍ يحلُّ محله وكانت هذه المحاورة بين كريشنا (الإله المتجسِّد) وأرجونا هي البديل، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية من قبل د. شاكوانتالا راوا شاستري وتُرجم إلى العربية من قبل رعد عبد الجليل جواد. 

إذن، فنحن أمام ملحمة أدبية ودينية وثقافية وفكرية واجتماعية تعود إلى 1000-1500 سنة ق. م. تجري أحداثها في شبه القارة الهندية حيث الغابات والسهول ونهر الغانج، الذي يَعدُّه الهندوس اليوم نهرًا مقدسًا. لا يعرف بالضبط المؤلف الحقيقي لهذه الملحمة وإن كانت تُنسب في متنها إلى الشاعر فياسا، إحدى شخصيات المهابهارتا ومؤلفها الذي تلاها على الإله غانيشا ذي وجه الفيل ليكتبها، ولهذه الشخصية فيدا فياسا أهمية محورية لكونه المقسِّم لنص الفيدا الديني في عصور الهند الغابرة. ولا يُشكُّ كذلك في الزيادة التي طرأت على نص المهابهاراتا كحال أي نص قديم غير مدوَّن، والذي يتألف من قرابة مئتي ألف بيت شعري مقسَّم في ثمانية عشر سفرًا رئيسًا يحمل كل منها عنوانًا معينًا مع سِفر متتم أخير. (هذه الترجمة العربية لعبد الإله الملاح ترجمة مختصرة وموجزة لذا قد ترد في هذه القراءة للملحمة معلوماتٍ غير دقيقة أو حتى خطأ).  

 

إنَّ موضوع المحلمة الرئيس هو معركة "كروكشيترا" الكبرى، التي تدور ما بين أبناء العمومة (القوروشيون والباندوفيون)، إلا إنَّ هذه المعركة الممثلة لقلب الملحمة تشغل حدثًا من سلسلة أحداث مؤدية إلى المعركة. وإن بدت الملحمة منذ البداية تمضي إلى الذروة في صراع أبناء العمومة فثمة الكثير من المواضيع التي تصب في نهر الملحمة الكبير، تظهر المعركة فيه أشبه ما تكون بحلقة ضمن مواضيع أخرى شددت عليها الملحمة كالدين والأخلاق والسلوكيات الفاضلة التي تمثلت في الدارما، وكيف أن شخصيات الملحمة دائما ما سعت جاهدة الالتزام بالدارما، بل إنَّ المعركة الكبرى الفاصلة نفسها من أجل إبقاء الدارما هي الحاكمة ولا ينتصر الشرُّ على الخير. إذن فالأبعاد الدينية (الدارما) والصراع ما بين الخير والشر (القوروش والباندو) هما المحرِّك الرئيس لكل شيء في المحلمة ولا يمكن قراءة المحلمة دون التنبُّه إلى هذه المسألة المهمة ولهذا نقرأ كلام فياسا حين استدعى الإله غانيشا وقال له: "أي برهما لقد أكملت عندي قصيدة، ما انقطعت تلح عليَّ، وتعرض ما كان من أمر الماضي، وتبسط في زماننا، وترسم ما سوف يكون المستقبل، رواية تحكي ما يعصف بالبشرية من الانحطاط، والتفسخ، والموت، وتصور الوباء، والرعب. كذلك وصفت مراتب المجتمع الأربع، وذكرت للزاهد أصول رياضة النفس، وحددت أبعاد الكواكب والنجوم، وقد جهدت أن تحتوي تلخيصًا لأسفار الفيدا وشروحًا للفلسفات، وتعدادًا للجبال والأنهار والمحيطات، ووصفًا للمناسك، والمدن الساحرة، وما احتوت الدنيا من العروق واللغات على اختلافها. وإنك لواجد فيها أصول فن الحرب، وتدريبًا على قواعد السلوك، والحكم، والسلطان، ولقد أردت أن تكون هذه القصيدة مستودعًا لكل المعارف والعلوم، وسجلًا للأحداث. بيد أنني لم أعثر على من هو جدير بأن أتلو عليه هذه الرواية!". 

يتضح لنا من كلام فياسا، مؤلفها أو من تُنسب له، أنَّ الملحمة هي عن الإنسان وتفرعاته المادية والفكرية، وعن الطبيعة والعالم والكون وكل ما له صلة بهم، وهي بذات الوقت ملحمة كل زمان ومكان، وكل إنسان، ولا تخص الهند وشعبها وحدها بل تخص الجميع، ومما بدا لي في بحثي عنها والحقائق التي ترد فيها ولم تذكر في هذه الترجمة المختصرة أنَّ معركة "كروكشيترا" شاركت فيها كل جيوش الأرض، إذن هي المعركة الفاصلة والدائمة الوقوع بين الخير والشر. إنَّ محلمة المهابهارتا عالميّة الخطاب وإن خصَّت أحداثها المرويَّة سكَّان الهند فحسب. 


أقسام الملحمة


تتوزع أحداث الملحمة بشكل رئيس في أربعة مراحل، تُشكِّل المرحلة الأولى البداية التعريفية بشخصيات الملحمة في أجيالها المختلفة ابتداءً من مولد فياسا ثم زواج الملك شنتانو امرأة يصادفها ويعجب بها وتلد له بهيشما، ثم زواجه الفتاة ستيافاتي (أم فياسا من الحكيم برشارا) التي تلد له تشيترانغادا وفيتشيترافيريا، وانتهاءً بأبناء باندو الخمس (أحفاد شنتانو)، وهم عماد شخصيات الملحمة لا سيما يوديشترا وبهيما وأرجونا وزوجتهم دروبدي، وأبناء عمهم ديتراشترا المئة وعلى رأسهم دريودانا. 

 أما المرحلة الثانية من الملحمة في حكم أبناء باندو لشطر من أرض هاستينبورا ثم خسارة يوديشترا -أكبر الأخوة الباندوفيين وملكهم- لمملكته لصالح عمه ديتراشترا غشًا في لعبة نرد أمام شاكوني -بتحريض من دريودانا-  ثم يُنفي الباندوفيين في الغابة مدة اثنتي عشرة سنة وعليهم في السنة الثالثة عشرة أن يتخفّوا لكيلا يتجدد عليهم النفي وإن نجحوا يعود إليهم ملكهم. فخرجوا في السنة الثالثة عشرة متخفين والتجأوا إلى ممكلة فيراتا.  

يتحضَّر أبناء العمومة في المرحلة الثالثة من الملحمة من أجل المعركة الكبرى والفاصلة بين الفريقين بعد أن رفض دريودانا أن يُعيد لأبناء عمه مملكتهم، لتجري بينهم إثر هذا الرفض والمكر والخديعة معركة فاصلة ما بين أبناء العمومة وحلفاء الطرفين تنتهي بانتصار الباندوفيين، وتتويج يوديشترا ملكًا على هاستينبورا بأكلمها. 

أما المرحلة الأخيرة في المحلمة فتتمحور حول الأحداث التي تلت انتصار الباندوفيين وإقامة طقوس حرق الموتى وابتعاد العم الشيخ الضرير ديترشترا مع زوجته قندهاري ليعيش حياة متنسكة في الغابة بعيدًا عن حياة المُلك والقصور. ثم تنتهي الملحمة بتنازل يوديشترا عن الملك وذهابه من أخوته إلى الجبل من أجل الصعود إلى السماء التي يدخلها دون أخوته جسدًا لا روحًا فقط تكريما له ولفضائله.   


خوارق الطبيعة


تمتاز المهابهاراتا في كثير من جوانبها بخرقها لطبيعة الإنسان والعالم. وتُلقي هذه الخوارق بظلالها على طبيعة المجتمع والفكر الهندي الذي يمكننا ملاحظته في الأفلام الهندية على سبيل المثال. فيصبح اللا منطقي منطقيًا، واللا معقول معقولًا، واللا طبيعي طبيعيًا، وبعبارة أخرى فإن كل ما يعرفه إنسان اليوم من منطق يختفي في كثير من أحداث الملحمة. فمن الخوارق فيها هو 


الأعداد المهولة والكبيرة جدا التي يصعب التصديق بها في كل شيء يمكن أن يتعدد في هذه الحياة. فنرى أن الهدايا التي تُمنح تبدو وكأن هناك منجمًا لا ينضب من الذهب وحديقة حيوان مليئة بملايين الأعداد من كل نوع حيواني وصنف. 


ويغيب مفهوم الزمن في الملحمة. فالقصر المشيد وبغرفه العديدة، وساحاتاه الكبيرة، وحدائقه الغنّاء يُبنى في مدة قصيرة لا تُذكر، ويسكنه أصحابه ويتمتعون برفاهية العيش فيه. 

فأين الزمن ولماذا يختفي؟ ما من إشارة واضحة بشأن هذا الموضوع فيبدو الزمن في الملحمة قصيرا إن أُريد ذلك، وطويلًا متى تطلّب ذلك. ولا يختلف الأمر كثيرا على تأثير الزمن في الشخصيات فتبدو أنها بعيدة كل البعد عن التأثر به بتقدم الزمن. فشخصيات مثل بهيشما تحتفظ بقوتها رغم تقدم السن ولا تفرق شيئا عن منافسيه اليافعين والشباب بل وتفوقهم كذلك.

فهل كان هذا التعامل شبه الإلغائي للزمن وتأثيراته متعمدًا أو اعتباطيًا؟ يبقى سؤالًا جديرا بالبحث ومحاولة الإجابة عنه. لكن بما أن الخوارق للطبيعة جزء من ماهية الملحمة لذا فإن الزمن ليس إلا أداة طيّعة بيد مؤلف الملحمة يستخدمها لخدمة أحداثها، وبما أن التأليف يمكن أن يقوم على الخيال لا الوقائع والحقائق فما الذي يجبر المؤلف أن يلتزم بحدود المنطق والمعقول؟ لذا يتيح لنفسه ما لا يتيحه الواقع له، فإن كان القصر المنيف يحتاج لسنتين مثلا لبنائه بإمكانه اختصار المدة إلى شهر وهكذا فهو لن يخسر جهدًا ولا مالًا لتحقيق ذلك، وكذلك فإن الزمن ليس عاملًا رئيسًا في كل الملحمة أكثر من مسار عام تجري الأحداث في حقبه المتابعة التي تضم أجيال الملحمة.


الشجاعة غير المحدودة. ومن السمات الخارقة للطبيعة هو شجاعة أبطال الملحمة غير المحدودة فأبطال مثل بهيما وأرجونا وكارنا وبهيشما يفعلون الأفاعيل بمئات من الجنود وآلاف دون أن يكون ثمة عائق يثبَّطهم عموما أو حاجز يُوقفهم. ولعل ما حدث في معسكر الباندوفيين وحلفائهم على يد أشفاتمن أكبر مثال على هذا الاختراق اللا منطقي للطبيعة البشرية في الملحمة، والذي يضعها في نوع من الخيال الطفولي أكثر مما هو الخيال البالغ المكين المحكم. 


تبقى هذه السمة غالبة على أحداث الملحمة من البداية وحتى النهاية، وتشكل عاملًا حاسمًا لأحداثها ومصائر شخصياتها. ويتبادر سؤال ماذا قدَّم هذا الخرق للطبيعة وقوانينها في الملحمة وهل كان من الممكن أن تلتزم الملحمة بقوانين الطبيعة والعقل دون السباحة في بحر المستحيل؟

إنَّ الخرق للطبيعة في ملحمة المهابهارتا مُسيِّر لأغلب محتواها وإطارها العام الذي يضبط أحداثها، لذا فإن ما يُخرق هو بذات الوقت ما يضبطها ويعطيها بعدها الملحمي الخارق الذي ستبدو من دونه باهتة، لا سيما وأنَّ هذه الخوارق للطبيعة شكَّلت المِخيال الهندي والثقافة الهندية وجعلت من الهند بلدًا للعجائب. وإنَّ الالتزام بقوانين الطبيعة في حال وجد في الملحمة فإنه لن يضرَّ المهابهارتا شيئًا أكثر من أنه يفقدها ماهيتها، فكل ما فيها من زواج الآلهة بالبشر، وشجاعة الأبطال، والقوة الجبارة والمقدرة المهولة، واختلاط النسب بين الشخصيات، كل هذا يمثل روح المهابهاراتا وجوَّها العام، وحين تسلبها كل هذا أو أغلبه فستقف أمام نص باهت لا يميزه الكثير سوى قِدمه عكس ما هي عليه في الحقيقة. 




المقابلة مع الإلياذة


تلتقي المهابهاراتا مع الإلياذة في نقاط وتختلف في أخرى. فتبدو نقاط الالتقاء أنها محاكاة أو تناص وتبدو نقاط الاختلاف أنَّ كل ملحمة تمثل بيئة خاصة بها بكل ما تحتويه هذه البيئة من أبعاد فكرية وثقافية واجتماعية ودينية وسياسية، لكن هذا لا يمنع أن يكون ثمة نوع من الاتصال ما بين الشعوب القديمة جعل التأثر والتأثير احتمالية واردة لا يمكن الإعراض عنها بالكلية، لا سيما وأن التشابه يبدو إلى حدٍ ما متطابق. 


من النقاط التشابه والالتقاء ما بين الملحمتين: 


غضبة آخيل وأرجونا


تشكل الغِضبة في الإلياذة مِفصلًا في تتابع أحداث الملحمة إذ كان مقتل باتروكلوس ثم غضبة آخيل، بطل حرب طروادة، عاملًا حاسمًا في قتل أمير طروادة هيكتور ثم انتهاء الحصار الإغريقي على مدينة طروادة بعد اقتحامها بحيلة الحصان الذهبي لأوديسيوس.

ترد الغِضبة في المهابهارتا متمثلة في أرجونا على مقتل ابنه، فبعد أن يقتل أبهيمانيو ابنُ أرجونا ابنَ دوشاسنا، ثم يقتل القوروش ابنَ أرجونا الذي يشتاط غضبًا على القوروش ويقاتل بشراسة مع قوسه الفيجانا الإلهي في طلب الثأر والانتقام. وعلى الرغم من أنَّ غضبة أرجونا أقل حدة من غضبة آخيل وأقل تأثيرًا على مسار الحرب فإنها تبقى من العوامل التي تتشابه في الملحمتين، لا سيما في كون المقتول أحد أبطال الحرب، وأبطال المهابهارتها لا يموتون بسهولة فهم الذين يبدون في كثير من الأحيان محصَّنين من الموت منيعين على المنية المحمولة على سلاح الخصوم. وهنا لا بد من الانتقال إلى النقطة الثانية من التشابه. 



صراع الأبطال


مما هو معلوم فإن هوميروس ليس بشاعر العامة ولا أبطاله من الرجال العاديين بل هو شاعر عليَّة القوم من الملوك والأمراء وشجعان الإغريق وصناديدهم، لذا فإنَّ ملحمتيه -الإلياذة والأوديسة- تركزان بشكل كامل على حياة الأبطال وصراعهم وكفاحهم وشجاعتهم ولا يلتفت إلى من هم دونهم إلا من أجل إكمال صورة الحدث عمومًا. ينطبق هذا الأمر تماما مع المهابهارتا فهي لا تتعامل إلا مع الملوك والأمراء والبراهما والحكماء والشجعان، فكل شخصيات الملحمة الرئيسة هم من الملوك والأمراء وقادة الجيوش الذي يمتازون بقوى هائلة أو سمات ليس لعامة الناس منها نصيب. لكن ما يميز البطل الإغريقي الهوميري عن نظيره الهندي، أن الثاني إلهي الصفات، خارق القوى، لا ينتظر مساعدة الآلهة ولا معونتها ولا يخشى أن تقف ضده فتبدو باهتة أو ظل إله أو حتى ظلًا له. أما الإغريقي فهو حليف الآلهة وسليلها ولا يجرؤ أن يجدّف بحقها وتبقى صاحبة السلطان عليه طيلة حياته.

تبدو بطولة الإغريقي أكثر رفعة فجانبه الإنساني طاغٍ عليه بسيئاته وحسناته، برذائله وفضائله، بشمائله ومعايبه. أما خُلق الهندي أكثر سموًا فهو أقرب للعصمة، فيجسّد الفضيلة بسلوكه، وافيًا لعهده، مخلصًا لوعده، ممتثلًا لكلمته التي أعطاها. فالإغريقي بطل بسيفه والهندي بطل بأخلاقه.

وثمة نظريتان عن الأبطال الهوميريين، تنص الأولى أنهم كانوا آلهة وإنحدروا بشرا، والأخرى أنهم بشر وارتقوا آلهة. وأيُّ النظريتين لا تبدو متعارضة مع الملحمة الهوميرية.

أما أبطال الهند فهم يبدو سلفًا آلهة أو في طريقهم ليصبحوا آلهة بقواهم الخارقة للطبيعة، والتزامهم بمعتقداتهم وتقاليدهم. وشجاعة الإغريقي أكثر جاذبية فهناك ما يُشعر المتلقي أنَّ بالإمكان هزيمته، أما الهندي فالمتلقي متأكد أنه غالبٌ لا محالة، وأنَّ كل شيء معدٌّ ليغلبَ خصومه ويبزُّهم بسلوكه القويم وعدله وتواضعه عند الانتصار. لذا فالبطل الهندي حالة من الشجاعة المثالية، والإغريقي حالة من الشجاعة البشرية.


حزن بريام وديتراشترا 


إنَّ حزن الملوك ليس كحزن الإناس العاديين، فالملوك لا يحزنون إلا لنازلة عظيمة ومصاب جلل. فحزن بريام (ملك طروادة) كان حزنين، الأول كان على موت ابنه هيكتور، بطل الطرواديين وأميرهم وقائد جيشهم، والآخر أنَّ موت ابنه حمل ضمنيًا نذيرًا بخراب طروادة، فاجتمع الأمرَّان عليه في خيمة آخيل، بعد أن ذهب يتوسل إليه أن يعيد له جثمان ابنه لتُقام له طقوس توديع لائقة بأمير طروادة. في الجانب الآخر فإنَّ حزن ديتراشترا (ملك هاستينبورا الضرير) بعد علمه بمقتل أبنائه المئة في المعركة الفاصلة ضد أبناء عمهم- هو حزن الأب الفاقد لأبنائه لا حزن الملك المفارق لملكه. 

إنَّ الفارق ما بين حزن الملكين ينقسم بشكل رئيس إلى نقطتين مهمتين، الأولى أمام من خسر ملكه، وماذا تُمثِّل مملكته له؟ 

يبكي بريام ابنه ومملكته معًا لأنه أولًا يخسرها أمام عدو منافسٍ يفوقه قوة ومقدرة عبرَ البحر بجيوشه إليه من أجل هدف واحد فقط أن يدمر طروادة عن بكرة أبيها، وأن خسارته لملكه خسارة الضياع إلى الأبد. وثانيًا في كون مدينة طروادة حصينة على الأعداء لعقود طويلة بفضل أسوارها وحصونها العالية، فهي أرض الوطن والأهل والأحباب، وليست مجرد مملكة. بكى بريام ابنه وطروادة ومجده الغابر وعمره الذي ستنتهي رحلته قريبًا بعد أن شاخ، بكى الماضي التليد الذي لن تبقى منه ذكرى بعد أن يقتحم الطرواديون حصون مملكته المنيعة. 

أما حزن ديتراشترا خالص على أبنائه الذين فقدهم لأنه أولًا كان ضد سياسات ابنه دريودانا الماكرة والخبيثة تجاه أبناء أخيه، وإنَّ خسارته المُلك لن تكون لعدو يريد الخراب لمملكته أو منافس منازع على ملكه بل لأبناء أخيه الذين يعرف حقهم في المُلك في هاستينبورا الذي خسروه غشًا وخديعة، بله ما يعرف عن سماتهم الخير والأخلاق والالتزام بالدارما التي تنظم سلوكهم وتضبط تصرفاتهم بدون طيش أو حيف. وثانيًا، في كون هاستينبورا مملكةَ الباندوفيين بقدر ما هي مملكة القوروشيين، فما من دمار سيحل على دورها ولا خراب سيطال أرضها، بل قد تكون أكثر ازدهارًا مع أبناء أخوته، وهو الذي شارف على نهاية عمره ودخل خريفه منذ أمد ليس بالقصير. 


آلهة الإلياذة وآلهة المهابهارتا


إنَّ الآلهة في المهابهارتا أقل قيمة من الآلهة في الإلياذة وتدخلها محدود في مسار الأحداث وأقدار الشخصيات وإن تدخلت فبدعم الأبطال بشكل غير مباشر كأن تزودهم بالأسلحة لا تتدخل بنفسها مباشرة. إضافة إلى أن الأبطال يجدفون دون أن يكون للآلهة تدخل بله كونها جزء الشخصيات بحضورها وليست مستقلة في عالمها. وكذلك في طبيعة العلاقة ما بين الأبطال والآلهة كما ذُكرَ آنفًا، فالعلاقة قائمة على نوع من التكافئ لا علاقة عبد وإله. وآلهة المهابهارتا بعيدة عن سمات البشر ونواقصهم ورذائلهم، وهي أيضًا لا تنقسم على نفسها داعمة هذا الفريق ومحاربة ذاك، بل تأخذًا موقفًا محايدًا ظاهريًا وإن كانت تدعم الأخيار الممتثلين لتعاليم الدارما والممثلين بالإخوة باندو وحلفائهم. يختلف الأمر كليًا في آلهة الإلياذة، فدائما ما يكون لها تدخل بمسار الأحداث ومصير الشخصيات، فتعين على إنجاد هذا وتعجِّل من مقتل ذاك، وهكذا دواليك. وتتخذ من الأولمبوس مقرًا لها تتابع الحرب ووقائعها، ليضاف البُعد السماوي إلى الإلياذة وتجري أحداثها منقسمة ما بين عالم الأرض وعالم السماء. وبفضل هذا الحضور الشاخص لآلهة الأولمبوس فإنَّ أبطال الإلياذة سواء من الإغريق أو الطرواديين دائما ما يطيعون الآلهة ويقدمون لها الأضاحي والقرابين سائلين إياها النصر والمعونة والتمكين. ولنتيجة لكل هذا، فإن آلهة الإلياذة تمتاز بطبائع بشرية فتبدو وكأنها بشرٌ بقدرات خارقة، فتنقسم فيما بينها آلهة تدعم هذا الجانب وأخرى تدعم ذاك. وتتحول المعركة ما بين الإغريق والطرواديين، صراع متأجج ما بين آلهة الأولمبوس الذي دائما ما يكون لكبيرهم زيوس القول الفصل والأمر النافذ على بقية آلهة الأولمبوس. 

ومما يمكنني استنتاجه من هذا الفرق ما بين تصوير آلهة الأمتين وتعامل الأبطال مع الآلهة هو تفوق آلهة الهنود على الإغريق، فهم أكثر سموًا ورفعة وأقرب إلى الإلوهية منهم إلى البشرية، ويُظهر نوعا من التطور المعتقدي الهندي إذا ما قُوبل بالرؤية المعتقدية الإغريقية المصوَّرة في الملحمتين. وأما تعامل أبطال الملحمتين مع الآلهة فإنَّ أبطال الإغريق أكثر تعظيمًا وتقديسًا لآلهتها بالنظر لطبيعة العلاقة التي تربط أبطال الهنود مع آلهتها، وهذا ما يُعيديا إلى ماهية الأبطال في الملحمتين وكيف أنَّ أبطال المهابهارتا ذوي جِبلّة آلاهية لا تتمتع بها شخصيات الإلياذة. 


     

رحلة السماء  


تنتهي ملحمة المهابهاراتا بتنازل يوديشترا عن الحكم في مملكة هاستينبورا ويذهب مع إخوته وزوجتهم دروبدي في رحلة الصعود إلى السماء بارتقاء الجبل. يسقط الجميع أثناء الصعود ما عدا يوديشترا، إذ كان لديهم معايب ورذائل منعتهم من ولوج السماء أجسادًا، لكن يوديشترا وباعتراف من الإله الذي استقبله فقد دخل السماء بجسده تكريما له ولالتزامه بالدارما طوال حياته.

إنَّ الدخول إلى عالم السماء أو عالم الأموات كما في الأوديسة وما يرد في اللوح الثاني عشر من ملحمة غلغامش، فكرة ملازمة للإنسان، يحاول جاهدًا السعي لمعرفة المجهول المتمثل بعالم حياة الآخرة أو عالم السماء بجنته وناره. وستبقى هذه الفكرة قائمة لدى الإنسان وستظهر في أعمال أخرى مثل رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، وهي فكرة ملازمة للإنسان باختلاف زمانه ومكانه. لذا فقد عمل الهنود على جعل الملك يوديشترا الذي امتاز بشمائله ومزاياه والتزامه بتعاليم الدارما أن يدخل السماء ويرى ما فيها.  وثمة فكرتان في هذه الرحلة: 


- اكتشاف المجهول السماوي أو ما عالم ما بعد الموت. وهو الموضوع الذي كان مصاحبًا للإنسان وحاول التعبير عنه دائمًا بكل ما أتيح له من خيال واعتقاد. وما يميز المعتقد الهندي هنا في رحلة السماء أنَّ العالم الذي يراه يوديشترا هناك منقسمًا إلى الجنة والنار، في حين نجد أن أنكيدو في ملحمة غلغامش يذهب إلى عالم الأموات، وما من تقسيمات مصائرية بجنة ونار هناك، وكذلك الحال مع أوديسيوس ورحلته إلى منزل الأموات. وهنا أيضًا نجد أن الرؤية الدينية الهندية في المهابهارتا أكثر رقيًّا من سابقتيها إذ تعتقد بوجود الحساب بعد الموت ثم المصير إما إلى الجنة وإما إلى النار اعتمادًا على عمل الإنسان والتزامه بتعاليم الدارما.


- الدخول الجسدي. تتمحور الفكرة حول دخول يوديشترا السماء بجسده، كون الجسد يمثل نوعا من الرذيلة والنقيصة، في حين الروح نوعا من السمو والكمال الذي يجعل من دخول يوديشترا عالم السماء جسدًا لا روحًا- تكريمًا لم يتسنَ لغيره.   

  


هناك تعليق واحد:

  1. تحليل أنثروبولوجي غاية في الدقة والبيان.
    دمت متألقًا.

    أحمد الحمدي
    WWW.ALHAMDI.BLOG

    ردحذف

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...