الأربعاء، 5 مايو 2021

الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة


هي حكاية واحدة تضم مجموعة من القصص الداخلية، ليس بينهما أي رابط، فهذه القصص قائمة بذاتها ببنيتها وحبكتها وموضوعها وشخصياتها. 

إنَّ الحكاية الإطارية في كليلة ودمنة هي من إبداع ابن المقفع، الذي يجعل من ديبيا الفيلسوف الهندي وحواره مع الملك دبشليم حكاية تضم القصص الأربعة عشر الداخلية يرويها ديبيا على الملك. ويعد العرب أول من وضع هذا الأسلوب الأدبي في تجميع القصص عبر ابن المقفع، وهو أول من استخدم الإطار الحكاياتي بهذا الشكل وإن ظهر سابقا في أعمال مثل المهابهاراتا والأوديسة والرامايانا والحمار الذهبي، إذ تقص الشخصيات قصصها أو بعض ما وقع لها على شخصيات أخرى. لكن يمكننا تميز الحكاية الإطارية وقصصها التي ظهرت مع ابن المقفع بسمات منها ظهرت لاحقًا في ألف ليلة وليلة وقصص كانتربيري والديكاميرون:

١- الحكاية الإطارية مجرد حكاية ليس لها غاية سوى الغاية الفنية التجميعية الإطارية. فهي تجري في نسق ثابت وليس فيها أي صنعة أو فنية خاصة  أو سمات سردية فارقة أو فكرة أدبية أو غاية موضوعية، بحيث يظهر دورها في التجميع لا أكثر. 

٢- الراوي ليس جزءا من قصصه. إن من يقص هذه القصص مفارق لقصصه، فهو لا ينتمي إليها زمنًا ولا مكانًا وليس جزءًا من الحدث حتى. ووظيفته القص فقط.  

٣- القصص الداخلية هي الأساس. إن المقصد في كليلة ودمنة هي قصص الحيوان لا قصة الملك وديبيا، لذا فإن مادة العمل الرئيسة تتمثل وتتركز في القصص المروية. 


يمكن أن نعدَّ هذه السمات هي التي تجعل من الحكاية الإطارية إبداعًا خاصًا بابن المقفع. فمثلا تظهر الحكاية الإطارية في رواية الحمار الذهبي، لكنها ليست إطارًا جامعًا عابرًا بل تتركز في رحلة الحمار ومغامراته وما يشهد ويُقصُ عليه أو يقصه، وكذلك فإن القصص الداخلية ليست الأساس بل رحلة الحمار هي الأساس. وكذلك تظهر في المهابهارتا حين ينشد فياسا على الإله غانيشا ملحمة المهابهارتا، وهنا نجد أن الحكاية الإطارية قد استوفت السمة الأولى والثانية لكنها لم تضم بداخلها قصص متعددة بل قصة واحدة متطورة ومتشعبة تخص الملك شانتو وذريته. وتظهر كذلك في الأوديسة، حيث يأخذ أوديسيوس دور القاص لا سيما ما قصه على ملك الفياكيين بعد أن وصل جزيرتهم في محطته الأخيرة قبل الوصول إلى إيثاكا، وهنا كذلك الحكاية الإطارية ليست إطارًا بل قصة رئيسة متمثلة برحلة العودة، وأوديسيوس هو جزء من قصته وليس مفارقًا لها، وتظهر السمة الثالثة لكن القصص هنا ليست متفرقة ولا يربطها رابط فالرابط موجود وهو أوديسيوس ورحلة العودة المحفوفة بالمخاطر. 

لكننا نرى في أعمال لاحقة مثل ألف ليلة وليلة، أن الحكاية الإطارية في حكاية الملك شهريار وشهرزاد التي تقص عليه قصصًا مختلفة لا يربطها رابط، ولا تجمعها شخصية، والقاصة مفارقة لقصتها.

وانتقل هذه التأثير الإطاري إلى آداب الأمم الأخرى. تقول كاثرين سلاتير جيتيز في كتاب "قصص كانتربيري والإطار التقليدي العربي" بأن الحكاية الإطارية في كتاب "كليلة ودمنة" عن الأصل الهندي المعروف بـ"بانجاتنترا" هو إطار عربي أضافه ابن المقفع أثناء تعربيه للكتاب. (١)

وتعد نسخة ابن المقفع النسخة الأصل الوحيدة التي بقيت من كتاب بانجاتنترا، بعد أن فُقدت النسخة الفهلوية والسنسكريتية، وكل النسخ السنسكريتية الموجودة هي مترجمة عن النسخة العربية لابن المقفع. وتضيف العرب لا الهنود هم أول من وضع هذه القصص داخل إطار. 

ونجد أن تجميع عدة مواضيع في إطار واحد موجود في القصائد العربية، التي تتنوع مواضيع أبياتها ما بين الوقوف على الأطلال وذكر الحبيبة والمفاخرة وذكر أيام قبيلة الشاعر، إلخ.  واطّرد هذا الأسلوب "الحكاية الإطارية" فظهر في قصص ألف ليلة وليلة ثم انتقل إلى الآداب الغربية. مع الجدير بالذكر أن الآداب اليونانية كانت تعنى بالوحدة الموضوعية وأن يكون العمل (ملهاة أو مأساة) ذا وحدة موضوع. وكان أول من نقل الحكاية الإطارية إلى الآداب الأوروبية هو الإسباني بتروس ألفونسي في القرن الثاني عشر ميلادي، حيث جعل كتاب كليلة ودمنة نموذجا لبناء كتابه "التربية الكهنوتية". وبعد رحيله إلى إنجلترا أصبح الرابط بين ثقافتين إسلامية ومسيحية، وتأثر به بوكاشيو في كتابه "الديكامرون" وهو عبارة عن مجموعة قصص يرويها شبّان وبنات. وكذلك الإنجليزي تشوسر، وكما تذكر جيتز، "قد أشار تشوسر إلى بتروس ألفونسي وروايته خمس مرات في حكايات كانتربيري". (٢)

وبهذا يعدُّ العرب أول كتب الحكاية الإطارية في الآداب العالمية وأول من استخدم أسلوب التجميع عبر كتاب كليلة ودمنة الذي نقله إلى العربية ابنُ المقفع.


_____

(١) (٢) موسوعة السرد العربي (ج٢) - د. عبد الله إبراهيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...