الأربعاء، 22 أغسطس 2018

اعترافات روائي ناشئ - أمبرتو إيكو.

اعترافات روائي ناشئ - أمبرتو إيكو.

وهو أحد الكتب التي يتحدث فيها إيكو عن خبراته في عالم الرواية، الكتاب الذي يخصه للحديث عن تجاربه الشخصية في الرواية، والتي يعتبر نفسه رغم كل ما قدمه في عالم الأدب من كتب عن السرد الروائي والسيميائية وكتابته لبعض روايات من بينها روايته المشهورة "اسم الوردة" وروايات أخرى كـ"بندول فوكو" و"باودولينو" وجزيرة اليوم السابق" و"مقبرة براغ"، إلا أنه يعتبر نفسه روائيا ناشئا، ويضيف معلقا "وبالتأكيد واعدا".
الكتاب مقسم إلى أربعة فصول: الفصل الأول وفي حديث عن رواياته والتي يبدو فيها إيكو
مجتهدا جدا في كتابة رواياته والبحث عن شخصياته وكتابتها بما يجعلها أقرب إلى الحقيقة، كما أنه لا يفوت شاردة ردون أن يبحث عنها تضطره أحيانا إلى عمل دراسات تخص الجغرافية والزمن واللغة والثقافة الاجتماعية والكلمات التي كان يتم استخدامها في العصر الذي يكتب به رواياته، كذلك يقوم بعمل مخططات ورسوم معمارية للأماكن التي تجري فيها أحداثه سواء أكانت مدنا أو ساحات أو متاحف أو حتى سفنا. وكذلك يتحدث هذا الفصل
عن الرواية والقراءة بصورة عامة، أما الفصل الثاني فهو النص والتأويل والترجمة مستعينا فيه كذلك من نماذج من رواياته يحيل إليها لتبيان ما يريد إيصاله إلى القارئ، الفصل الثالث الشخصيات التخييلية وهو من أغنى فصول الكتاب، وهو مقسم إلى عدة أقسام يبحث فيها عن أسباب خلود بعض الشخصيات الروائية وعيشها خارج النص المكتوبة فيه، بل وتحولها في العقل الجمعي لكثير من المجتمعات كحقيقة يصدق بأنها وجدت، فيتعاطف معها الناس أكثر مما يتعاطفون من الناس الذي يعانون في أرض الواقع. الفصل الأخير من الكتاب وهو خاص بموضوع اللوائح وعنصر اللائحة في السرد الروائي أو الشعري الأغريقي قديما، وفيه أمثلة متعددة عن لوائح سردية في روايات مختلفة من بينها رواياته.
واللائحة كما تشير الكلمة إلى المعنى المتداول لها بين الجميع، وهو ذكر أشياء تنتمي لنفس النوع في قائمة واحدة، ونجد هذا في أقسام من الرواية كما في رواية عوليس والأوديسة، حيث يتم يقوم ليوبولد بلوم بسرد الحاجيات الموجودة في رفوف المطبخ، أو ما يقوم هوميروس بذكره عند الحديث عن حصون طروادة، وأمثلة أخرى، وأرى أن اللائحة عنصر روائي لا يعتمده الكثير من الروائيين إذ الحاجة إليه تعتمد على سياقات النص المسرود ومدلولات الكاتب لكنه يبقى عنصرا فعالا ينم عن ذكاء الراوي السارد إذا عرف كيف يستخدمه في نصه الإبداعي.







x

في هذه الفصول عدة محطات مهمة سأعرج على بعضها:

ما الكتابة الإبداعية:
يعرفها إيكو بأنها نصوص لا يمكن إعادة صياغتها كليا، كما لا يمكن شرحها، في الوقت الذي يتساءل هل يُعد الفيلسوف أو الكاتب الذي يدون العلوم مبدعا؟ يجيب يمكن أن يكونوا كتابا محترفين وتكون نصوصهم قابلة للتلخيص أو قابلة للصياغة بطرق مختلفة من دون أن تفقد معناها، عكس النصوص الإبداعية. ويضيف في موضع آخر متصل في إضافة سمة التأويلات للنص الإبداعي فيقول: "عندما أنشر نصا في السميائيات، أكرس وقتي بعدها إما للاعتراف بأنني أخطأت، وإما للبرهنة على أن الذين لم يفهموا نصي على حقيقته لم يقرؤوه بشكل جيد. إما عندما أنشر رواية، فإن الأمر سيكون عكس ذلك، أشعر بأنني لا أملك الحق في التصدي للتأويلات التي تكون موضوعا لها (وفضلا عن ذلك لا أشجع أيا منها).
إذًا، فالكتابة الإبداعية كما يراها إيكو هي التي لا يمكن أن توضع في إطار تفسيري توضيحي بل تبقى مفتوحة على عدد لا ينتهي من الاحتمالات والتأويلات، ولهذا بإمكان أي شخص أي يحترف الكتابة ويكتب ما يشاء في أي موضوع يريد، لكن تبقى سمة الإبداع مقام لا يناله أي قلم ولا يدعمه إي مِداد، ما لم يحز على السمات الإبداعية الكاملة التي تسمو به إلى اللا إعادة للصياغة أو التوضيح أو التفسير، إذ يبقى النص طيرا يسبح في فضاء واسع من التأويلات.

التسنين المزدوج:
ويعني أن الكاتب الروائي أثناء كتابته الرواية فهو يخاطب فئتين من القرّاء الكاتب المثقف والكاتب العادي، حيث عملت الأدب ما بعد الحداثي إلى إزالة الفوارق الطبقية الاجتماعية وألغت الأدب الموجه إلى نخبة معينة دون غيرها وعملت على إنكار التفريق بين ثقافتين مرموقة وواطئة، من خلال رفض أي تفريق جمالي بين الثقافتين كما يشير جيسي ماتز في كتاب تطور الرواية الحديثة، لكنها بذات الوقت احتفظت ببعض السمات التي لا يستطيع القراء جميعا إدراكها فيقول إيكو: "إن البناء أو العمل الفني الما بعد-حداثي يتوجه في الآن نفسه إلى أقلية نخبوية باستعماله سننا "راقيا" وإلى الجمهور العريض باستعماله سننا "شعبية". ويقول: أعترف أن المؤلف، وهو يستعمل تقنية التسنين المزدوج، إنما يؤسس لنوع من التواطئ الصامت بين القارئ المثقف والقارئ العادي الذي لم يلتقط هذا التلميح الثقافي، فإنه سيشعر أن هناك شيئا ما قد أفلت من بين يديه. ولكن لا أعتقد أن هدف الأدب هو التسلية والمواساة فقط. إن الأدب يبتغي أيضا التحريض على قراءة النص مرتين وأحيانا أخرى الدفع إلى قراءته مرات عديدة، ذلك أن القارئ يريد أن يفهمه فهما جيدا. لهذا أعتقد أن التسنين المزدوج ليس عادة أرستقراطية، بل هو، عند المؤلف، طريقة للتعبير عن احترامه لذكاء القارئ ونيته السليمة.
القارئ الفعلي والقارئ النموذجي:

القارئ الفعلي كما يعرفه إيكو هو نحن أو أي من يقرأ النص، إذ يمكن للقراء الفعليين أن يقرأوا بطرق متنوعة، ولا وجود لقانون يعلمهم كيف يقرأون، ذلك أنهم يستخدمون النص كما يستخدمون سيارة من أجل ممارسة أهوائهم، تلك التي يكون مصدرها خارج النص، أو تلك التي يستثيرها النص.
أما القارئ النموذجي فهو بدل أن يؤول النص يقوم باستعماله، ويذكر قصصا مختلفة عن القارئ النموذجي الذي يستعمل النص عن طريق التحرك بداخله كما لو أن الأمر يتعلق بمذكرات خاصة من خلال تسقيط النص على حياته والاعتقاد أن ما يذكره النص يتكلم عن شخصه، ومن الأمثلة ما قام به أحد أصدقاء إيكو الذي كتب له "العزيز أمبرتو لا أعتقد أني رويت لك القصة الحزينة لعمي وعمتي لكي تفشي سر ذلك وتستعملها في حلقات في روايتك".
والبعض الآخر من القراء النموذجيين من يريد أن يكون النص مطابقا للعالم الواقعي، وأن يكون العالم التخييلي هو ذاته العالم الذي نعيش فيه.

النص والتأويل:
في موضوع تأويلات النص، حيث يحصر حدود التأويل من خلال التمييز بين قصد المؤلف وقصد النص وقصد النص، إذ يقول أن النص جهاز، الغاية منه إنتاج قارئ خاص به، وهذا القارئ ليس شخصا قادرا على طرح تخمينات تكون وحدها دون غيرها جيدة: الأمر على العكس من ذلك، يمكن للنص أن يتوقع قارئا نموذجيا له الحق في إسقاط تخمينات لا متناهية. إن القارئ الفعلي هو مجرد ممثل يقدم تخمينات حول نوعية القارئ المثالي الذي يفترضه النص. فيما أن قصد النص هو بالأساس إنتاج قارئ نموذجي قادر على تقديم تخمينات حوله، فإن مهمة القارئ النموذجي تكمن في تصور مؤلف نموذجي لن يكون هو المؤلف الفعلي الذي يتطابق في نهاية التحليل مع قصد النص.
والتعرف على قصد النص هو التعرف على استراتيجية سيميائية. ويمكن الإمساك أحيانا بهذه الاستراتيجية انطلاقا من أعراف أسلوبية سائدة.

الشخصيات التخييلية:

ما الذي يدفع القارئ أن يتعاطف مع مدام بوفاري أو أن تُستثار دموعه لمصير آنا كارنينا في الوقت الذي لا يتعاطف مع ملايين الناس الذي يلقون حتفهم لأسباب كثيرة في هذا العالم، أو أن يستذكر شخصيات روائية تخييلية كشخصية شارلوك هولمز وينسر شخصيات حقيقية أخرى؟ وهو سؤال مهم يقوم على عدة أسباب:

  • يقول ألكسندر دوماس: "فمن مميزات الروائيين أنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ. والسبب في ذلك أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم وعظم".

  • تقوم بعض استراتيجيات الرواة على خلق دراما تستدر دموع الجمهور. وأن ظاهرة التعاطف لا تمتع بقيمة وجودية أو منطقية، ولا يمكن أن تثير اهتمام أحد عدا السيكولوجيين. ويضيف إيكو إذا كنا نتماهى مع الشخصيات التخييلية ومع مصائرها، فإن سبب ذلك يعود، وفق مواضعات سردية، إلى أن نهيئ أنفسنا داخل عوالم ممكنة لقصصهم، كما لو أنه عالمنا الواقعي. وإن عملية انتزاع دموع قارئ ما لا تعود فقط إلى المميزات التي تتوفر عليها الشخصية التخييلية، بل أيضا إلى العادات الثقافية للقراء، أو العلاقة القائمة بين انتظاراتهم الثقافية والاستراتيجية السردية.

  • الأنطولوجيا ضد السميائيات: يقول إيكو لا أهتم بأنطولوجيا الشخصيات التخييلية. فلكي يصبح موضوع ما موضوعا لدراسة أنطولوجية يجب اعتباره موجودا في استقلال تام عن كل ذهن يفكر فيه. وسبب حزنا على موت شخصية تخييلية كآنا كارنينا، فلن يكون بمستطاعي تبني وجهة نظر أنطولوجية، وأنا مضطر للنظر لآنا كارنينا باعتبارها موضوعا ذهنيا، موضوعا للمعرفة. ولا تعد مقاربتي من طبيعة أنطولوجية، بل هي من طبيعة سيميائية: فما يهمني هو معرفة ما المضمون الذي يتطابق في نظر قارئ مؤهل، مع التعبير "آنا كارنينا" خاصة إذا كان هذا القارئ يسلم بأن آنا كارنينا لم ولن تكون أبدا موضوعا له وجود مادي.

  • إثباتات تخييلية ضد إثباتات تاريخية: في الوقت الذي قد نشكك في موت هتلر في مخبأ أرضي، لكننا لا نشك أبدا بموت آنا كارنينا، ويضع إيكو هذه المقابلة على محكين هما الشرعية التجريبية الخارجية والتي من خلالها نطلب دليلا على موت هتلر في مخبأ أرضي، وعبر الشرعية التجريبية الداخلية (بالمعنى الذي لا يلزمنا بأن نستخرج من النص ما يثبت ذلك)، واستنادا إلى هذه الشرعية، سننظر إلى من يؤكد لنا أن آنا كارنينا تزوجت من بيار بيزيخوف بأنه أحمق، أو في الأقل ليس مطلعا على الأمور بما يكفي، في حين نسمح لشخص ما أن يشكك في موت هتلر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرات عوليس

مذكرات عوليس   ١ أكتوبر . عوليس الرواية التي فصلت تاريخ الرواية إلى جزئين ما قبل عوليس وما بعد عوليس كما يصفها م...